: «محمد مفتاح الفيتوري شاعر كبير، ولكن الذي لا يعرفه البعض منا أن له مساهمات فكرية ونقدية، وهذه واحدة من مساهماته النثرية التي التفت فيها إلى مناضل ومفكر سوداني مجهول» المحرر. منذ قرابة مائتي عام أو أكثر قليلاً، تلاشت آثاره، ولم يعد أحد يذكره، بين أفارقة الإبداع الأدبي، والنضال الفكري، والمعاناة الإنسانية القاسية، التي كابدها أولئك الرواد الخالدون. وهذا ما دفعني منذ أن تصادف أن قرأت اسمه، إلى تقصي أسباب تجاهله، واشعل في روحي، بمنأى من مشاعر التعصب القبلي، أو حتى القومي، نار الرغبة في المعرفة، والحرص على اكتشاف وتبيان الحقيقة وراء كل ذلك. ومنذ ذلك الحين وأنا ماضٍ في التساؤل مع نفسي، ترى لماذا يحدث مثل هذا التجاهل، لمثل هذا الإنسان بالذات، انهم وهذا من النادر يذكرون اسمه عبوراً ولا يقفون عند صنوف العذابات التي قاساها، والتضحيات التي قدمها راغباً أو مكرهاً رافضاً لكافة مظاهر وأشكال العبودية والعمل على تحرير الإنسان الأسود، ومحو وصمة التخلف عن تاريخه، والارتقاء به إلى المستوى الحضاري والاجتماعي اللائق، والذي هو أبسط حقوقه، رغم سيطرة عصور القهر والاستبداد والطغيان. بلى إن العديد من المؤرخين والباحثين والمتسكعين أخيراً على أبواب القارة الإفريقية، إلا القليلين منهم، احتقروا مجرد ذكر اسمه، وتشاغلوا بمن هم أقل منه عطاءً وأهمية، متجاوزين تلك الرؤى والتجارب، والصراعات المهينة القاسية، التي انعكست صورها وحقائقها وتأثيراتها على حياته وحيوات كل أولئك الذين أتوا من بعده، والتي تجسدت بدورها في ذلك المصطلح السياسي الايديولوجي الجغرافي الثقافي وأعني به مصطلح Negrtyd الذي طالما تعمدت به أفواه وأقلام النقاد والباحثين، محليين وعالميين منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين. ترى ما هي هذه الأسباب الخفية، وراء هذا التجاهل المتعمد، بينما تزدحم كتاباتهم وأفواههم، بأسماء ايمي سيزار، وليوبولد سنغور، ديفيد بولس، وليون داماس، وآخرين من هنا أو هناك، ولربما كان الكثيرون من هؤلاء أقل أهمية، وأضأل قيمة في حسابات التاريخ. وأبادر مستدركاً، أن ليس بمقدور أحد مهما يكن، انكار أهمية هذا أو ذاك من كبار المبدعين الأفارقة، لكنني أعود وأتساءل: هل مرجع هذا التجاهل إلى نشوء ما اصطلح على تسميته خلال القرن التاسع عشر، بالعنصرية العلمية، والتي تقوم أساساً على اعتبار التفوق هبة إلهية اختص بها الأبيض على ما عداه من ألوان البشر. أو ربما يعود ذلك إلى حالتي الغموض والالتباس اللتين تحيطان بجوهر شخصيته من حيث الديانة المتوارثة والدم الخالص، والانتماء الافريقي؟ هل هو مسيحي أم مسلم؟ هل هو زنجي خالص أو مهجن؟ هل هو سوداني عربي أو سوداني زنجي؟ ولربما تكون الظروف السياسية المستجدة في دارفور تسمح لنا بأن نتعرف على واحد من أبنائها العظام الضائعين، وما أكثرهم تحت قبور وأتربة التاريخ، وصاحبنا هذا الذي انفض عامداً، الغبار عنه.. هو هذا المجهول: اسمه فيلكس دارفور! بلى.. هذا هو الاسم الذي حفره على جبينه، ذلك الجنرال الذي اشتراه واستعبده، أو ربما أهداه أحد النخاسين إليه، ولعدم معرفته باسمه الحقيقي، وضياع اسم قبيلته بين القبائل، أو الاكتفاء بنسبته إلى الاقليم الغربي من المستعمرة البريطانية الفرنسية السابقة «1».. منطقة دارفور بالسودان.. حيث جرى اختطافه صغيراً والانزواء به عن أهله في دارفور، ومن ثم حشره ضمن شحنات العبيد، عبر درب الأربعين والهروب به إلى المستعمرة المصرية التي كانت خاضعة بدورها للنظام النابليوني الفرنسي وقتذاك «1798 1801م». وهكذا وجد الطفل فيلكس دارفور، نفسه ضمن مقنيات أحد معاوني الحاكم الفرنسي، وهو الجنرال أردوان ذو الأصل الكاريبي، ولربما كان من حسن حظ فيلكس، أنه صار قريباً من هذا الرجل الذي تسري في عروقه بعض الدماء الزنجية، مما جعله يتعاطف معه، ويرمقه بعينين حالمتين جعلتاه يقرر إعادة حريته الكاملة إليه، واعتاقه من ربقة العبودية، ثم اصطحابه معه عند عودته إلى باريس، وهناك ازداد شغفاً به، واهتماماً بوضعه الإنساني، فأتاح له فرصة التعلم والشعور بالثقة، والاندماج في الحياة الاجتماعية المتاحة لأمثاله حينذاك. لعلني استطردت بعض الشيء في محاولة التعرف على شخصية ابن دارفور الذي تجاهله المؤرخون، ولا شك انه ليس وحده الذي يجابه هذه الحقيقة المؤلمة. إنها ظاهرة شائعة في عالمنا لعربي والإفريقي، بل وفي عالمنا الإنساني، وقبل أن أدعو إلى انصافه، وان كان وقت الانصاف قد انتهى، أرى من واجبي أن أضع تحت أعيننا هذه النقاط، المستقاة من تاريخه منذ أن عرف طريق الحرية والانعتاق. ومما لا شك فيه أن حركة التحرر الإفريقية من كافة مظاهر وأشكال العبودية، لم يكن لها أن تقوم وتنتصر، وأن تتوج جهودها بإلغاء عصر النخاسة والعبودية البغيضة لولا تضافر مجموعات عديدة من الشخصيات الفردية والجماعية المتناثرة هنا وهناك، وبخاصة في زوايا ومنعطفات القرنين التاسع عشر والعشرين. «إن إفريقيا ليست لغير العرق الافريقي، وحكمها لا ينبغي أن يكون إلا لأبنائها السود»، تلك المقولة لم تكن مجرد صرخة في وادٍ، وإن تحاوطت لإخمادها وإطفاء أصواتها، مؤامرات المتعصبين. تلك المقولة الصاعقة هي التي ازدهرت وتبلورت في عيني فيلكس وفي جسده وروحه خلال وجوده العملي، وتحركاته المتفاعلة المستمرة ما بين متاحف ومعارض ومظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية الفرنسية، وخاصة تلك التغيرات الجوهرية التي اجتاحتها عقب الثورة الفرنسية، لذلك كان لا بد له من التفكير بحثاً عن نقطة ضوء إفريقية، يستطيع من خلالها التلاحم الإيجابي الخلاق، مع تاريخ أمته وبلاده التي حلم بها، وماضيه الذي لم يزل يعيشه، ويتحرك في ظلاله ونواحيه.. وكانت «هايتي» التي علم باستقلالها، كجمهورية للسود الأفارقة المحررين «1804» هي نقطة الضوء التي أبصر في نهايتها مستقبل أيامه، فقرر مغادرة باريس متوجهاً إليها، حاملاً كل ما اكتسبه من معارف وخبرات، في مختلف الحقول الفنية والأدبية والإعلامية، وفي «هايتي» اكتشف فيلكس أن من حقه قانونياً كمواطن افريقي، الحصول على جنسيتها، بعد عام واحد من استقراره. وهكذا بدأت الرحلة الأخيرة والنهائية من حياته... فاستثمر مواهبه الثقافية وخبرته الفنية في مجال العمل الصحفي والإعلامي، مدفوعاً بتطلعاته وطموحاته الشخصية، في نقل أفكاره الثورية على معاني الحرية، وتعميق مثله العليا في نفوس الآخرين من جماهير الجزيرة السوداء الكادحة، فأصدر عدداً من الصحف الوطنية، وقام ولعدة سنين بتحريرها وكتابتها وطباعتها وتوزيعها بجهده الفردي المتواصل، العبء الذي أثقل كاهله، فلم يتمكن من مواصلته طويلاً، ووجد نفسه مضطراً إلى الاشتغال بالمحاماة تارة، وبالهندسة المعمارية تارة أخرى، وكان في كافة توجهاته الحركية والساكنة صوتاً مدوياً مدافعاً عن الغالبية العظمى المقهورة من سكان الجزيرة السوداء، مطالباً بإنقاذهم مما هم فيه وترقية أحوالهم والإصغاء الى معاناة فقرائهم ومعوزيهم، والنهوض بهم معيشياً وتعليمياً، ومنحهم حقوقهم في الحرية والعدل والمساواة. ولم يطل به المقام طويلاً.. بعدما أمعن في الاحتكاك والمعايشة والملامسة الجريئة ضد عناصر السلطة الحاكمة المكونة من البيض والمهجنين والملونين الذين رأوا في وجوده بينهم خطراً داهماً، تجب إزالته قبل استفحاله.. بل وقبل امتداده في الآخرين. وهكذا انفجرت في وجهه تلك القنبلة الزمنية التي كانوا يحترمونها للتخلص منه عام 1822م، إذ تواطأت الأحقاد والعنصرية والمصالح الشخصية والقوى السلطوية، ضد هذا الأنموذج الثوري بينهم، وصدر الحكم عليه دونما سابق انذار بالإعدام رمياً بالرصاص!! وجرى إعدامه قبل أن تدخل التاريخ تلك العبارة التي ترددت على شفاه من دخلوا التاريخ من بعده، من أمثال اندريه برايتون، ولانجستون هيوز وأيضاً إيمي سيزار!