فليكس دارفور.......ذاكرة تاريخية عصية على النسيان مجتبى سعيد عرمان [email protected] الغوص فى اعماق التاريخ يفضى بنا الى إستشراق المستقبل ومعرفة الذات...وكم هو محزن ان لا نتعرف على تاريخ الشعوب والقبائل والشخوص الذين شكلوا معالم السودان, ثقافيا وفكريا وسياسيا. كانت تلك هى لحظة الإنس مع الصديق ياسر محمود بن أم درمان والتى قلما يجود به بها سودان اليوم وذلك بفعل الجرى وراء لقمة العيش التى صارت الشغل الشاغل وحلت محل القراءة والإطلاع فى دولة تدعى إمتلاك مشروع حضارى يبتغى التفوق على العالم أجمعه كما كنا نسمع على الإذاعة والتلفاز الحضارى جداا. وياسر هذا لديه شغف لمعرفة الأمكنة والشخوص الذين تركوا بصمات واضحة فى حيواتنا. كان الحديث حول الشخوص الذين ساهموا وبشكل متميز فى تشكيل وعينا ووجدانا سواء كانوا فى مجال الفن او الرواية او القصة او على الصعيد السياسى والفكرى, ولكن تم إقصائهم مع سبق الإصرار والترصد, بل منهم من لم يذكره التاريخ المدرسى بشر او خير...بل حتى أن هنالك تاريخ لممالك وحضارات بكاملها لم تفرد لها مكانة فى المنهج الدراسى ولا حتى الإعلامى المرئى او المقروء لم يكن من ضمن خططه ( هذا إن كانت هنالك خطط ودراسات). وكم كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان محقة عندما طالبت بإعادة كتابة التاريخ... وكم كانت الناطق بإسمها قبيل ( الكارثة الكبرى) ياسر عرمان حينما قال: ( الإنتقاص من تاريخ السودان يعنى الإنتقاص من جغرافيته) وكم كان محقا!! وهو ماحصل فى نهاية المطاف...فدخول العرب الى السودان لم يكن وسوف لن يكون هو سدرة المنتهى. من هو فليكس دارفور الذى لم تشير إليه كتب التاريخ, قديمها وحديثها؟ وبالطبع التاريخ دائما ما يكتبه المنتصر أو الفئات ذات اليد الطولى والمسيطرة سياسيا وأقتصاديا. البحث عن رجل مثل فيلكس بن درافور مهمة شاقة وذلك لقلة ماكتب عن الرجل الذى فى مقدمة الصفوف من أجل الدفاع عن المهمشون والجوعى والحزانى فى تلك الجزيرة وكأنما به على موعد مع التاريخ. يقول عنه القامة السامقة محمد الفيتورى فى مقال له بعنوان: ( فليكس دارفور) الأتى: ( هذا هو الاسم البديل, القناع المزوق الذى نسجته الأقدار حول وجهه ...والذى أخذ صورته ومعناه داخل دائرة التاريخ...وليس عندى أدنى شك, بأن اسمه المجهول ذلك الذى أسقطته سنوات العبودية وعذابات المنافى البعيدة, أنما كان رمزا حيا ومتفاعلا مع أحداث عصره نظرا لما كان يرتكز عليه من إيقاع دام, وإيحاء غامض, وأبعاد إجتماعية وإنسانية لا يمكن تصورها....هل كان إسمه الحقيقى ..ماكاى..أوغر.. أو عرمان, أو ربما تام تام؟ أنتهى الإقتباس) يبدو لى ان القدر كان على موعد مع رجل لم يركن الى ظلم الإنسان لاخيه الإنسان, وفليكس اثبت وبالدليل القاطع ان طاقات الإنسان ومقدرته على تجاوز الظروف القاسية لاتحدوها حدود... وكم هى غير إنسانية ومحطة من قدر الإنسان ان يوضع تحت قيود الذل والعبودية والتهميش.والسؤال ماهى الظروف التى شكلت وعى فليكس دارفور والتى جعلت منه إنسان عصى على النسيان... يقول الفيتورى فى ذات المقالة:( هذا هو الإسم الذى حفره على جبينه ذلك الجنرال الذى اسمه فليكس دارفور, اشتراه أو استعبده أو ربما أهداه أحد النخاسين إليه, ولعدم معرفته باسمه الحقيقى, وضياع اسم قبيلته بين القبائل, آثر الاكتفاء بنسبه إلى الإقليم الغربى من المستعمرة البريطانية الفرنسية السابقة منطقة دارفور بالسودان..حيث جرى إختطافه صغيرا والإنزواء به عن أهله فى دارفور, ومن ثم حشره ضمن شحنات العبيد عبر درب الاربعين والهروب به إلى المستعمرة المصرية التى كانت خاضعة بدورها للنظام النابليونى الفرنسى وقتذاك 1798-1801) وهكذا وجد الطفل( فيلكس دارفور) نفسه ضمن مقتنيات أحد معاونى الحاكم الفرنسى وهو الجنرال أردوان ذى الأصل الكاريبى, ولربما من حسن حظ الطفل فيلكس, انه صار قريبا من هذا الرجل الذى تسرى فى عروقه بعض الدماء الزنجية, مما جعله يتعاطف معه ويتيح له فرصة التعليم والشعور بالثقة والإندماج فى الحياة الاجتماعية المتاحة لأمثاله حينذاك. انتهى الإقتباس) يبدو لى ان فيلكس صاحب شخصية لا تركن الى الشرط الإجتماعى القاسى الذى وجد نفسه فيه, بل سعى جاهدا الى تطوير نفسه وكيف لا وهى من منطقة ساهمت وبشكل فعال إقامة ممالك وفى وقت كانت كثير من المجتمعات لا تعرف الشكل الحديث فى التنظيم الإجتماعى والسياسى وقتذاك..يضيف الفيتورى: ( وهكذا بدأت الرحلة الأخيرة والنهائية من حياته...استثمر موهبته الثقافية وخبرته الفنية فى مجال العمل الصحفى والإعلامى مدفوعا بتطلعاته وطموحاته الشخصية فى نقل أفكاره الثورية على معانى الحرية..فأصدر عددا من الصحف الوطنية, قام ولعدة سنين بتحريرها وكتابتها وطباعتها وتوزيعها بمجهوده الفردى المتواصل, العبء الذى أثقل كاهله فلم يتمكن من مواصلته طويلا, ووجد نفسه مضطرا الى الإشتغال بمهنة المحاماة تارة وبالهندسة المعمارية تارة أخرى..........ولم يطل به المقام طويلا بعدما أمعن الإحتكاك والمعايشة والملامسة الجريئة, ضد عناصر السلطة الحاكمة والمكونة من البيض والمهجنين والملونين الذين رأوا فى وجوده خطرا عليهم يجب إزالته.... وهكذا انفجرت فى وجهه, تلك القنبلة الزمنية التى كانت يختزنونها للتخلص منه, عام 1922, إذ تواطأت الأحقاد والعنصرية والمصالح الشخصية والقوى السلطوية ضد هذا النموذج الثورى بينهم, وصدر الحكم عليه دونما سابق إنذار بالإعدام رميا بالرصاص)) وختاما, يالها من سيرة حافلة بالجسارة فى ازمنة الجوع والفقر والإذلال, ولكن فيلكس دارفور أثبت لنا جميعا ان إرادة البشر لا تحدوها حدود, وعلى رأى المثل الإنجليزى الذى يقول اينما كانت هنالك إرادة كان هنالك مخرج...والامر الآخر والمهم هو ان السودان مقبل على التشكيل والتشكل وجحافل الهامش تطرق وبشدة على ابواب المركز على الحقوق المتساوية.... وكلنا من آدم وحواء, ومتى إستعبدتم الناس ولقد ولدتهم امهاتهم احرارا.. الصيحة التى اطلقها الخليفة العادل قبل أكثر من الف عام..تتبادلها الآلسن وتظهر وبكل وضوح على كل برامج الحركات التغير والقوى الصاعدة الجديدة. وفيلكس وغيره وهم كثر يأبوا الإنتظار فى اضابير التاريخ ورفوف المكتبات.... وقد قالها مؤسس علم النفس الحديث, فرويد ان المجموعات التى تم كبتها ولزمان طويل سوف يأتى اليوم الذى فيه تنتصر لكرامتها وبشكل عنيف. وإذا اردنا ان نقيم سودان حديث او جديد علينا بالإنتصار للتاريخ...فشخصية مثل فيلكس دارفور عصية على النسيان ويجب وضعه فى المكان الذى يليق به, مع عبد اللطيف والماظ وصحبه وذلك من اجل إقامة سودان خالى من التفرقة العنصرية والإستعلاء الاجوف الذى جعل السودان فى زيل قائمة الدول الاكثر فاسدا, وهذا بالطبع لا يتأتى الا بالإعتراف بالآخر والنظر والإعتراف بالمكونات التاريخية والثقافية لهذه البلاد, وبدونها سيكون الآفق ملىء بالإنقسامات وحقا قد جاء وقت دفع الإستحقاقات الكبرى التى ينبغى على الطبقة السياسية فى الشمال وفى مركز السلطة دفعها... فالدول لا يتم بناءها على الكبت والتسلط والقهر.... فنحن نعيش فى أزمنة التلاقح الحر لإفكار ونهاية الجغرافيا.