الخرطوم: ولاء جعفر : لم يدر في خلد الحاج زكريا والحاجة محاسن ولو للحظة ان بيتهما الذي كان يضم جميع العائلة تحت سقف واحد، تجمعهم جلسات المساء وسفرة الغداء والعشاء في حوش البيت مصحوبة بحكاوى سنين الشقاء والمعاناة وأيام الهول، اما محاسن فتحكى لبناتها سنوات العشق والحب والعطاء التي عاشتها في هذا البيت بحلوها ومرها، لم يدر في خلدهما أنه سوف يرحل منه الجميع إلا هما بعد انتقل الأبناء الى بيوتهم وانتقلت البنات الى بيوت ازواجهن، ليقول زكريا والدموع تتساقط من عينيه والآهات تخرج من قلبه متحسراً على تلك الايام الجميلة: بقينا انا ومحاسن في تلك الغرفة الصغيرة بعد ان تم هدم جزء كبير من البيت بعد أن اكل الدهر عليه وشرب واصبح متهالكا تجمله الذكريات فقط، ماضياً الى ان لمة الابناء في البيت الكبير اصبحت شيئاً من الماضي، فالكل منشغل بأسرته وأولاده ليكتفى برفع سماعة الهاتف للسؤال والاطمئنان والتهانئ، بل وحتى التعازي، واذا لم يجد الرد يتناسى الموضوع بحجة «ضربت وما في زول رد». وفى حديثنا عن فقدان لمة الاهل وغياب البيت الكبير ابتدر محمد عثمان حديثة ل «الصحافة» قائلا «الترابط الأسري في السودان بدأ يتراخي» ماضياً الى القول «ان هناك عدة عوامل لذلك التراخي اهمها الجري الما جايب همه واللهث وراء لقمة العيش التي أصبحت هماً وهاجساً لكل السودانين، حيث أصبح الاب أحياناً كثيرة لا يرى أبناءه إلا ساعة واحدة في اليوم، وهؤلاء الابناء لا يرون أقاربهم الآخرين إلا في بعض المناسبات وفي السنة مرة، لانهم لم يجدوا من يعلمهم صلة الرحم». وعلى نفس طريقة الشاب محمد جاء حديث الحاج محجوب، حيث يرى ان اختلاف التربية هو السبب الاساس في اختفاء اللمة في البيت الكبير، ماضياً الى ان آباء هذه الأيام يربون أبناءهم على الندية ولا يغرسون في داخلهم أهمية احترام الكبير، فتحطمت صورة كبير العائلة واختفت تماما، إلى جانب مشاغل الحياة والجرى وراء لقمة العيش والبحث عن الاستقلال، فكل ذلك ساعد على اختفاء بيت الكبير واختفاء اللمة، مشيرا الى ان كل أسرة تريد الاستقلالية والانفصال، وأصبح بيت العائلة رمزاً فقط، ولمة العائلة لا نشعر بها إلا فى أول يوم رمضان، وأول أيام العيدين وفى المآتم والأفراح. العازة امرأة في عقدها السادس بدأت حديثها بحسرة ظهرت على تقاطيع وجهها قائلة: «يا بتى حليل الحوش الكبير ما خلاص راح وراحت ايامه»، وواصلت حديثها قائلة: «ده كلو من مقصوف الرقبة الموبايل الله لا عادو»، وبعد أن تحسست موبايلها الذي تربطه بخيط احمر على رقبتها اجابت: «زمان الاولاد يجوا كل جمعة ومعاهم الشُفع عشان يقيلوا هنا، ومرات من الخميس، هسي بقى كل واحد يضرب ليك تلفون ويقول ليك انا مشغول يا حاجة بجى الجمعة الجاية مع السلامة، والحوش الكبير ده كل التربية الصحي صحي واتمنى انوا الناس ترجع ليهو من تاني». البيت الكبير من الأشياء الجميلة التي افتقدناها من تراثنا السوداني وقيمنا السمحة التي للأسف أصبحت ينظر اليها على أنها موروثات بالية وتقاليد قديمة لا تتماشى مع الحاضر والتطور والعولمة، وكل إنسان يريد أن يكون معزولاً وبعيداً عن الناس دون قيد لحرية أو شخص يمثل «قرابته» يعيش معه في مكان واحد، فالكل يريد البعد ويختار بيتاً خاصاً به لا يوجد فيه حنان الجد والحبوبة، ولا حنية الخال والخالة، ولا اهتمام الأعمام والعمات، ولا تمازج أبناء العم والخال وأبناء الخالات. وقال عوض: «في أحيان كثيرة تلعب التكنولوجيا أثراً أو دوراً سالباً في حياة المجتمعات، وعلى وجه الخصوص السوداني، حيث صارت سلاحاً ذا حدين بقدر ما يمنحنا من فائدة ايجابية فعلى النقيض يترك آثاره السلبية، ومن هنا نلحظ ان مجتمعنا الذي كانت تربطه اقوى صلات الترابط الحميمة وتجمعه ابسط المناسبات التراحم اليوم، بات اقل وصولا لأرحامه، وتفككت اواصره الاجتماعية من لمات ومسامرات لا تخلو من تفقد الاهل والجار والصديق، واعتقد ان التكنولوجيا متمثلة في جهاز الموبايل لعبت دوراً كبيراً في هتك هذا التواصل مناصفة مع الضغوط الاقتصادية التي قصمت ظهر الغالبية العظمى من المجتمع السوداني». لقد أخذتنا مشاغل الحياة الكثيرة من لمة في البيت الكبير وتبادل الأخبار والتعمق في التفاصيل، فتحلو ساعات السمر وتمر ساعات السهر تحت ضياء بدر القمر، والبعض يحاول أن يستعيد بهجة تلك اللمة فيخطط وينظم، وأحياناً تنجح مخططاته وفي أحيان أخرى تفشل، والسبب تفاصيل الحياة العصرية التي تكدر أجواء الحياة الاجتماعية.