: كانت تحس بأنها في غاية الإنهاك النفسي والجسدي.. عادت قبل قليل.. دخلت الى غرفتها.. خلعت عنها البستها الثقيلة.. ارتدت ثوباً بيتياً خفيفاً.. دلفت الى الحمام.. كان انثيال الماء الفاتر قد انعش جسدها هوناً.. ومع ذلك ظلت هامدة الفؤاد.. مشتتة الخاطر.. تقول في داخلها: (آه أعلم ان الغرائز البايولوجية مرتبطة على نحو ما بتوليد الانفعال ودرجة الشعور والوعي وانت الذي درجت على أن تقول لي: يا أناى العليا وهأنا الآن اتشظى واتفتت وأبحث عن الضمير والوعي والاستجابات الشعورية فتتبدد وتتكشف أمامي الأقنعة السرابية الخادعة حيث يعجز الذهن عن الادراك). تمور بداخلها أفكارها الموارة.. تلعق جراحاتها.. تنهض من سريرها، تنتحي مكاناً قصياً، هنالك من خلال شرفتها تنظر إلى السماء كأنها تسألها عن العدل، والسماء غير معنية إذ بدت في لحظتها تلك وقد اكتست بالشفق القرمزي كأنها تشارك أهلها بالاحتفاء. أختها الصغرى وابنة خالها وأمها، في حركة دائبة فيما ظلت هي برهة ليست بالقصيرة هائمة في براري وحشتها المستوحدة، يعروها إحساسها بالغربة التي ينعق فيها غراب بينها المستغرب، تعود الطيور إلى وكناتها مغمورة بالسعادة.. فيما تظل هي مسيّجة بأحلام الطفولة الموءودة. يا بت!! يأتي صوت أمها قاطعاً عليها تيار استغرابها، والأم تبدو سادرة في خدمتها. سيدة المطبخ بلا منازع لها دافعها بالطبع تريد أن تبسط أضيافها وهم يلتهمون أطباقها بينما تطبق عليها هي أحزان الآماد.. لقد اشتهرت بين خديناتها بعائشة ذات اليد الطاعمة ولهذا تبدو مستنيمة لهذا الإحساس العذب. يا بت يا آسيا.. تزجرها أمها تراها وقد إنتأت عن المطبخ وراحت بعيداً هناك تحتضن كتابها أو مجلتها، وتتوه في عالمها. (والله لو قريتي هندسة.. ياكي للمكنسة.. ولو قريتي قانون ياكي للكانون!! إنتو ما بقروكم الواحدة كيف تكون ست بيت؟ والله بكرة تندمي وما تعرفي تمسكي بيتك كيف؟). يا بتي المرة يا هي المرة.. والراجل يا هو الراجل..!! الجد شنو؟ بكرة؟ لماذا بكرة؟ إنها نادمة منذ الآن كيف ترضى أن تكون الثانية؟ سؤال ظلت تلوكه في كل لحظة وثانية.. هل تمخضت آمالها وطموحاتها لتكون هذه هي محصلتها؟؟ أمها في غاية الفرح.. والدها في غاية الإصرار.. أختها تريد لطريقها أن ينفتح.. شقيقها يساندها ومعها يقف.. وقد قال لها إن الأمر يرجع اليك وحدك.. فاذا ما قلت لا.. فإن هذا الامر لن يتم.. فكري وقدري.. ثم قرري.. إنها حياتك على كل حال.. فتحملي مسؤوليتك في حالتي الرفض والقبول. آه يا أسامة أنت تضع النقاط على الحروف، وتسمي الأشياء بأسمائها.. على كل لست صغيرة.. ولعلها هذه هي المعضلة. الممرضة الردفاء لا تني تشاكسني بقولها: (شدي حيلك يا دكتورة.. أوعك أوعك من البورة!!). أكنت بحاجة إلى هذا الموقف الذي لا أحسد عليه؟؟ أيها الدكتور الجبان.. ساقط الضمير والوجدان.. لماذا تركتني أعيش الانتظار الذي أسلمني إلى البوار، وأفض بي إلى هذا الذل وهذا الهوان؟؟ يا مائي المدلوق على السراب الخُلب؟! (كيف فاتني أن أسبر حقيقته، وأقرأ دخيلته، وأنا أعد نفسي بما توفرت عليه الأقدر والأجدر بالاكتشاف؟ كيف تأتي لي أن أبدد طاقتي النفسية في ما لا طائل من ورائه؟ الحركة ها هنا تزداد.. ترتيب البيت بشكل جديد.. الصالون، السهلة، المفروشات الأسرة.. أطقم الجلوس الفاخرة.. أقترة الطعام الفائحة.. الجارات يجرجرن أثوابهن داخلات.. القريبات المريبات.. الصديقات القريبات.. يحتلني خاطر أن أطردهن جميعهن. إن باركن لي دمغتهن بالشامتات، وإن قلن لي تريثي ولا تستعجلي دمغتهن بالطامعات، اتوهمهن جميعاً عدوات حاقدات، غولات ماكرات.. في لحظات التجلي احلل حالتي أكاد أدمغ نفسي بالبارانويا. هذه زميلتي في قسم السايكولوجي «بدور» تأتي الآن تحتضنني بمحبة تقبلني على خدي صادقة الود هذه البدور.. ثاقبة الرؤية.. ذات دراية واسعة قالت لي منذ فترة باكرة: آسيا داوي جراح قلبك واقلعي.. إن انتظارك لمجدي غير مجد!! ما صدقتها.. كانت تخاطبني بلغتنا المشتركة.. عن كاريزما الأشخاص.. الانبساطي والانطوائي العصابي والسيكوباتي.. فأقول لها «بدور لقد بادرت باستكمال حياتك مع بابكر ضابطك الإداري، ولم تطبقي عليه نظرياتك هذه.. بالله عليك دعينا من ذلك فثمة فروق جمة بين النظرية والتطبيق والفكر والكينونة!!». والآن وقد أزف وقت وصول العريس الذي تقول عنه أمي إنه لقطة، ليس لأي شيء الا لكونه مغندلاً كما تقول: «ما بحوجك لشيء.. بيتك.. وعربيتك ما لك ومال مرتو التانية؟ إنت في حدك وهي في حدها!!». المشكل إني لا أجد له في داخلي أية مساحة من العاطفة «ولا أحس له بطعم في لساني».. ازدادت الحركة والجلبة بدت الوفود من الأسرة تتوافد.. ثم جاء العريس في معية أهله.. هذا لقاء للتعارف قالوا. خرجت إلى الصالة بعد أن غيرت ملابسي ومسست بعضاً من طيوبي، ووضعت مكياجاً خفيفاً.. فما لبث أن صاحت بدور «قمر والله.. قمر والله يا آسيا حقو يوقفوا ليك الرجال صف ويقولوا ليك اعزلي» يا بت.. تقول لي «خلي التكشيرة دي واطرحي جبينك شوية!!». قدموا للضيوف العشاء الفاخر، المرطبات والفاكهة والمكسرات.. تهمس بدور في أذني وهي تمثل: «عارفة حيقوم واحد من أهل العريس فيقول بعد المقدمات طبعاً يا جماعة بتعرفوا كلكم عبد الجبار رجل ولا كل الرجال أدب وأخلاق ومال وإن شاء الله يكون عند حسن الظن». بعدين حيقوم واحد من أهلك ويتنحنح: نحن لا نزكي على الله أحداً لكن بتنا آسيا هي ست الحسن والجمال والأخلاق خريجة علم نفس وتحضر الآن للمجاستير.. ثمة نساء كبيرات أخذن يحدقن في آسيا.. ثم ينهضن يسلمن عليها من جديد بعد أن تهامسن ملياً وأخذن يدرن حولها من أمام ومن خلف، فيما هن يتمتمن: «صلاتي على النبي ما شاء الله».. كن يتفحصنها بدقة وكدن يصلن مرحلة الجس!! إحدى قريبات آسيا همست لها وأشارت لإحداهن تلك هي شقيقة العريس لها مشكلاتها مع المرة القديمة، ولهذا فهي أكثرهن فرحاً بهذه الزيجة. ما كان أغناني عن ذلك؟ قالت في نفسها. لعل التعارف قد تم بأكثر مما كانوا يأملون.. ولعل المعرفة قد اكتملت بأكثر مما كانوا يظنون.. فصاروا يضربون الأمثال بإيقاع الحياة السريع وزحمتها.. وكثرة الأشغال وانه لا داعي للانتظار.. وان الطول فيه الهول.. كما ان خير البر عاجله.. وعليه ما دام ان هذا الجمع من الأهل ومن الطرفين قد التأم.. وان هنالك الذين أتوا من بعيد وقد لا يستطيعون الحضور مرة أخرى.. فلهذا نرجو أن يتم العقد الآن ونختصر الزمن والمطاولات!! ومن عجب فإن المأذون كان حاضراً.. همهموا جميعاً بالقبول.. ثم أرسلوا للنساء يخبرونهن بأنهم بصدد العقد. ٭ أجي!! ٭ ده كلام شنو؟؟ ٭ سجم خشمي ده سووه متين؟ ٭ ما قالوا تعارف؟ ٭ سووه عقد عديل. ٭ هي لكين عندنا ناس ما حاضرين نقول ليهم شنو؟ وإذ جلسوا للعقد.. وتشابكت الايدي... ولقن المأذون وكيل العريس صيغته: أطلب يد مجبرتك آسيا لموكلي عبد الجبار بالصداق المقبوض وقدره.. ولحظتها اذا بآسيا تأتي مهرولة لتتوسط الجمع الحفيل وهي في غاية الفزع لتقول: لا.. ما في عقد.. قبل التعارف.. والتعارف ما تم حتى الآن!! عندئذ أقفل المأذون شنطته.. فيما ظلت أفواه الحضور جميعهم فاتحة!!