: فى عدة مناطق بالولاية، تبعد عن النيل عشرات الكيلومترات تشاهد المراكب تعمل على نقل المواطنين وبعض ما تبقى من ممتلكات الى اقرب يابسة، مفردات يتم تداولها فقط فى دولة مثل السودان، ولا يوجد لها معادل او مرادف فى الدول الاخرى من حولنا.. الاستعداد للخريف.. فتح المصارف.. تجهيز الآليات والأكياس والشوالات والخيام والاغاثات !! هذا الخريف اكبر من المعدل، كميات الامطار اكبر من استيعاب المصارف، وتلهج السن المسؤولين بالدعاء «اللهم اجعلها أمطار خير وبركة»، والبيوت المشيدة من الجالوص «الطين» ذابت فى المياه الغاضبة كما تذوب قطعة البسكويت فى الشاى الساخن، والرواكيب تطايرت عيدانها وبروشها الى مسافات بعيدة.. وبعد ليلة من الأمطار أصبحت عاصمة البلاد اقرب الى قرية كبيرة، وتحولت الأحياء السكنية الى جزر والميادين والساحات الى بحيرات تعجز الذاهبين الى بيوتهم عن السير فيخوضون فى مياه ارتفاعها يتجاوز المتر ونصف المتر، وغرقت السيارات والمركبات من كل نوع بما فى ذلك ذوات الدفع الرباعى، وينشغل المواطنون المنهكون في العمل على فتح المصارف لتجمعات المياه امام المنازل وفى الشوارع الجانبية، وتنهار اكثر من عشرة آلاف منزل فى الخرطوم وحدها ويتوفى اكثر من «12» مواطناً ليبلغ عدد المتوفين الذين تم حصرهم أكثر من عشرين من المواطنين فى العاصمة والولايات الاخرى، والسيول دمرت الطرق والجسور فى شرق السودان والجزيرة ونهر النيل والشمالية، وهناك خسائر كبيرة فى المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية، وتدهورت البيئة بشكل سريع بحيث أصبح ذلك يهدد بانتشار الاوبئة والامراض المعدية، فهذه الأمطار جعلت السيد والى الخرطوم لا يبارح المكتب لمدة «24» ساعة ويغير ملابسه فى المكتب، وهذا ما دفع السيدة حرمه للدفاع عنه فى وجه مطالبات المواطنين باستقالته، مؤكدة ان السيول والامطار كانت اكبر من اى توقع قائلة: «الناس تعبانة ولهم العتبى حتى يرضوا» فيما يشبه الاعتذار نيابة عن السيد الوالى وهى للأمانة لفتة بارعة، والحمد لله الذى جعل زوجات المسؤولين بهذا القدر من التفهم لمشاعر المواطنين الغاضبين، وعلى الأقل بمثل هذه المواساة «للتعبانين» والمتضررين، فهذه الأمطار كانت مناسبة لظهور زوجات بعض الدستوريين لجمع الدعم العيني والكساء للمتضررين، وهى ظاهرة جديدة وجيدة وجديرة بالاهتمام والدراسة وبالذات من تلكم الزوجات اللائى لم تعرف عنهن ميول للعمل الطوعى، وربما تيمناً بالمثل القائل «وراء كل رجل عظيم امرأة» وقفن خلف الازواج، وقد تكون ارهاصات التعديل الوزارى هى ما جعل الزوجات يظهرن هذا القدر من التضامن مع المتضررين فى واحدة من الكوارث التى لو حدثت فى دولة اخرى لأطاحت هؤلاء المسؤولين من الفئة الثالثة حسب تصنيف الدكتور امين حسن عمر بأن التغيير سيشمل «الناجحين ومتوسطى الأداء والفاشلين»، ولخضع المسؤولون المتسببون فيها الى التحقيق والمحاسبة بعد ادعائهم علم أمر السماء والتحضير لامطار توقعوا حجمها فى مخيلتهم، فى السابق كانت المشاركة الرمزية لزوجات المسؤولين تتم فى اطار بعض النشاطات الاجتماعية وبالذات ذات العلاقة بالمرأة او الطفل تقوم بها السيدة الاولى، وفى بعض المناسبات القليلة تشارك حرم النائب الاول، فهذا التدافع من السيدات زوجات السادة المسؤولين وان كان يعكس القلق مما هو آت فإن لم يفعل شيئاً ملموساً فعلى الاقل هى مجاملة تسعد بعض القلوب الحزينة وتخفف مصابها، تلك الأسر التى فقدت الارواح والممتلكات وتبيت فى العراء، فهذه المجاملة ربما تقلل من وقع تجهم وعبوس بعض ازواج لهن يحكموننا وهم غاضبون منا، باعتبارنا نمثل عبئاً ثقيلاً عليهم، وتشكل احتياجاتنا من طعام وشراب وخدمات احد اوجه تقصيرهم فينا، وإننا نأسف إن كنا ننكد عليكم حياتكم فيضطر البعض منكم للعمل من أجلنا أو يبيت خارج بيته أو يغير الملابس فى مكتبه، ولا ادرى ماذا يعنون بالدعاء «اللهم اجعلها امطار خير وبركة» ولم يحسنوا الاستعداد لها، والوضع تحت السيطرة عبارة قالها احد المسؤولين، فعن أية سيطرة يتحدث هذا المسؤول، لقد تلاشت سيطرته بعد عدة ساعات وفى مساء نفس اليوم الذى طمأن فيه المواطنين، فقد داهمت السيول الجارفة شرق النيل منحدرة من البطانة وأحدثت اضراراً فاقت تلك التى حدثت مباشرة بعد هطول الامطار، اذن ماذا كانت تفعل الطائرات التى استطلعت احوال العاصمة وما جاورها، الم تر تلك السيول وهى تتقدم نحو الخرطوم، فجرفت شوارع الاسفلت واقتحمت البيوت والاسواق وحاصرت السكان، وانهارت المجارى وجرفت بعض السيارات التى كانت موجودة قرب تلك المجارى، وصاحب ذلك انقطاع المياه والكهرباء وسط غياب للمسؤولين الذين اكتفوا بالتحليق بالطائرات، هذه الاحوال الكارثية التى تعيشها البلاد تعيد الى الاذهان ما حدث فى العام 1988م، وكانت محل انتقادات حادة وتهكم على حكومة السيد الصادق المهدى من جانب الحكومة الانقاذية التى بدأ حكمها البلاد فى 30 يونيو 1989م بعد عام واحد على تلك الكارثة، خمسة وعشرون عاماً مضت ولا جديد على صعيد تخطيط المدن والطرق القومية، فهذه الامطار هطلت وعمت كل السودان دون صلاة استسقاء!! وتستمر الابتلاءات واللهم اجعلها أمطار خير وبركة.. آمين!!