هناك مثل سوداني عتيق يلخص حالة سوء الظن العريض التي تفضي إلى المعاندة والممانعة في تلقي العون والإغاثة ومد يد المساعدة لذوي الكربات والحاجات، بل ووضع المتاريس أمامهم حتى لا يقدموا معوناتهم، والمثل يقول «جو يساعدوه في حفر قبر أبوه دس المحافير»، أي أن الناس قد هرعوا لهذا الذي توفى والده ليساعدوه في حفر القبر الذي يستر فيه الجثمان، إلا أنه للغرابة خبأ عنهم أدوات الحفر، ومما قيل في قصة هذا المثل، أن من دس المحافير إنما فعل ذلك لأن على والده المتوفي دين واجب السداد، وكان لا بد أولاً حل الدين قبل الدفن ولهذا دس عن المشيعين المحافير مخافة أن يسرعوا في دفن والده قبل سداد ما عليه من دين، فهل يا ترى لهؤلاء الذين دسوا المحافير عن الناشطين من الخيرين والمتطوعين لتقديم الاغاثات والمعونات لمنكوبي كارثة الامطار والسيول التي ضربت العاصمة واجزاء أخرى من البلاد، إتاوة من أي نوع يريدون منهم ان يسددوها قبل ان يقدموا معوناتهم، أن يدفعوا مقدماً فاتورة مساعدتهم لهؤلاء المتضررين، سواء أكان هذا الدفع سياسياً أو حتى مادياً.. يقابل هذا المثل السوداني، مثل آخر شعبي عروبي يقول «جو يساعدوه في دفن أبوه خطف المقطف وجرى»، والمقطف لمن لا يعرف هو «القفة»، أو ما شاكلها، وهذا العربي أمره أعجب من مواطننا السوداني، هرب من المشهد كله وترك جثمان والده في العراء مخلفاً وراءه حيرة ودهشة المشيعين الذين حاروا جواباً وتفسيراً لفعلته، أمعتوه هو ومجنون لا يدرك ما يفعل، أم أنه لص إعتاد الخطف ولو كان كفن أبيه، أم ابن عاق لا يهمه إذا دفن أبوه أو أكلته الكلاب، أم هو ابن مزيف نسب إلى أبيه زوراً، ومن يوم هذه الفعلة النكراء صار ما جرى مضرباً للمثل على كل شخص أو جماعة أو بلد تقف حجر عثرة في سبيل من أراد خيرهم، وبالطبع فإن أي خير يجده منكوبو السيول والامطار يعينهم على العودة إلى ممارسة حياتهم الطبيعية الحكومة هي المستفيد الأول منه، ولهذا كان غريباً ومريباً أمرها وهي تعمل بحماس على وضع العراقيل و«الكلتشات» أمام من هبوا طوعاً لمساعدتها على احتواء الآثار والاضرار الفادحة التي خلفتها الكارثة وسأضرب على ذلك مثالين... المثال الأول الصادم والذي يصدم أول ما يصدم القيم والاعراف السودانية المرعية والمستقرة حول النفير والضرا ونجدة الملهوف وإغاثة المنكوب هو القرار الحكومي الذي قضى بالقضاء على المبادرات الاغاثية الشعبية بما فرضه عليها من اجراءات متعسفة تعصف بالعمل الطوعي الشعبي الاهلي التلقائي والطبيعي الذي عُرف به السودانيون في مثل هذه الحالات الحرجة التي أكثر ما تحتاج اليه هذه الروح الوثابة والاداء الانسيابي السهل والسريع المبرأ من أي غرض غير سرعة انقاذ ما ومن يمكن انقاذه باعجل ما تيسر، خلافاً للاداء الرسمي البيروقراطي السلحفائي الذي يعتبر في حد ذاته كارثة أخرى، فأن تفرض الحكومة على كل المبادرات الشعبية الطوعية أن لا تمارس أي عمل طوعي اغاثي الا بعد الحصول على اذن مسبق من عدة جهات رسمية، وبعد الاذن عليها كل صباح أن تملأ اورنيكاً خاصاً، وبعد ان تملأه عليها ان تملأ خزانة الحكومة بسداد رسوم تستقطع من مال الاغاثة، ماذا يعني كل هذا غير ان الحكومة تريد ان تقضي على هذا الجهد الطوعي النافع على طريقة القط الذي انتهر الفأر وقال له لا تثر علىّ الغبار وهما في عرض البحر، للاسف كان لها ما أرادت فتوقفت جهود معروفة ومشهودة من أبرزها جهد مجموعة نفير... ومن حكومة البحر الاحمر جاءنا شيئاً عجبا، إذ أفاد مراسل الصحيفة المثابر محمود ود أحمد، أن الحكومة هناك أوقفت الهلال الاحمر السوداني عن ممارسة نشاطه الأصيل في إغاثة وعون المتضررين بحجة أقل ما توصف به أنها العذر الاقبح من الذنب، قال إيه لان عمل الهلال الأحمر يناقض عمل وزارة الشؤون الاجتماعية مع أن الهلال الاحمر ذو باعٍ طويل وتاريخ مديد في هذا العمل قبل أن تنشأ ولاية اسمها البحر الاحمر بعشرات السنين... فلمصلحة من يتم ما يجري إذا كان هو بكل المقاييس ليس في مصلحة المتضررين والمنكوبين؟!...