٭ صدر في صنعاء كتاب جديد للأستاذ عثمان محمد أحمد (تراث)، وهو بعنوان المشغل الروائي - النص والنص الموازي - دراسة في الخفاء ورائعة النهار، وهي رواية للأستاذ فيصل مصطفى طبعت للمرة الثانية، ضمن منشورات الخرطوم عاصمة الثقافة مع تغييرات في العنوان، حيث أصبح يقرأ كالآتي (رواية الخفاء)!!. وهنا ننشر المقدمة التي كتبها للكتاب (أ. د. حاتم الصكر) المحرر. تحتفي الدراسات النقدية الحديثة، لا سيما تلك المتأثرة بأطروحات المدارس ما بعد البنيوية وجماليات التلقي بوجه خاص، بما تعارف النقاد على تسميته النصوص المحايثة للنص الأصلي موضع الدراسة. ومن تلك النصوص المحايثة موجهات قراءة النص وعتباته التي تحف به، ولا تدخل في بنية التقسيمة الداخلية المسكوكة بوضع لساني خاص ونسق لغوي مغلق له إشاراته وعلاماته الخاصة. ولكن تلك النصوص الصغيرة وإن وقعت على جدود النص وأحاطت به، تمثل سياقات صغرى تعمل في امكان فهمه واستيعابه والحكم الجمالي عليه وتأويله وقراءته بمناظير متنوعة. تلك العتبات النصية التي يقترحها البناء الفني تغدو موجهات قراءة على المستوى الجمالي التقبلي فتلفت نظر القارئ، وتوجه قراءته بالضرورة، وفي مقدمة هذه العتبات الأغلفية بكيانها التصويري والخطي، والعناوين الرئيسة والفرعية، والأمكنة التي تحين النص وتموضعه في مكان محدد ذي حمولة دلالية، والتواريخ والملاحظات والهوامش والحواشي، والاقتباسات التصديرية، والتسميات وجمل الاستهلال والختام وسواها من الفواعل في قراءة القارئ والداخلة في عملية القراءة بما أنها إعادة تشكيل للنص وترميم لفجواته وإظهار المسكوت عنه في نسيجه البنائي المتاح للمعاينة. الناقد والكاتب السوداني الصديق عثمان تراث يسلط في دراسته هذه أشد الأضواء سطوعاً لتقريب النص الروائي المدروس (الخفاء ورائعة النهار)، وهو رواية سودانية للكاتب فيصل مصطفى صدرت طبعتها الأولى عام 1998م، ويستخدم تراث إجراءات التحليل النصي التي لا تتوقف عند الأغلفة والموجهات الأخرى لأغراض جمالية خالصة فحسب، بل تشتق منها الدلالات الفاعلة في فهم النص الروائي وتحليله وتأويله وإعادة تركيب جزئياته بصبر ودقة يتضحان في الدراسة، وينعكسان إيجابياً على مفرداتها التي تمددت حتى شملت ما هو في لب البنية الروائية، وليس فقط في موجهاتها الخارجية كالبحث في الزمن وتنوعاته اللسانية والسردية، والفضاء المكاني للرواية وأفعال السرد فيها ودلالة تتابعها أو تقاطعها والتقنيات المستخدمة في تمثيله، وكذلك الشخصيات ومكانتهم في صنع الحدث وتقرير المصائر. ولكن المفاتيح دوماً في قراءة عثمان تراث للرواية هي مقتربات تحيل إلى الجماليات المهتمة بالتلقي، ومقياسه الأساس في القراءة هو مدى تأثير العناصر الروائية في إعادة تشكيل النص لدى القارئ عبر القراءة التي لم تعد مسحاً بصرياً للمقروء، أو استعراضاً لتسلسل الأحداث وأفعال السرد وتواليها في النص كمبنى حكائي مجرد من الدلالة، وهذا هو امتياز قراءة الناقد لرواية (الخفاء ورائعة النهار) بدءاً من عنوانها الذي يصفه بالغموض والتجريد والشاعرية مروراً بالأغلفة الخارجية والداخلية، والهيئة الخطية التي ظهرت بها والتي وإن كانت من صنع مصمم قارئ بشكل ما للنص، وليس الروائي يمثل ظهورها مغلفة للمتن الروائي، توافقاً ورضاءً من الكاتب يجعلنا نضع له حساباً في القراءة. ويمكن ملاحظة اهتمامات أكثر جذرية في قراءة الموجهات كدراسة عثمان تراث لهوية الرواية التي وصفها كاتبها بأنها «رواية سودانية»، ودلالة ذلك الوصف في تأويل ثيماتها وعناصرها الروائية، فيجد أن ذلك التجنيس لم يضعف المتن الروائي شيئاً كونه أدرج الرواية في جنسية جغرافية، مع أن أحداثها تندرج في بنية فنية لا تعمل فيها الجنسيات الوطنية عملاً واضحاً ومؤثراً، وربما قصد الناقد القول إن العمل ينتمي إلى الجنس الروائي بوشائج تذيب محليته، ولا يصلح معها تجسيده، أو عرض عينة منه على أنه رواية سودانية بالمعنى المحلي أو الشعبي. وفي مجال الدراسة التفصيلية لعناصر الرواية يظهر المؤلف مقدرة عالية في رصد بنية النص الروائي وشكله عبر تلازم تلك العناصر، كما أنه يستقصيها محيلاً إليها في مواضعها من المتن الروائي، محاولاً تبيان هوية السرد عبر تلك التشكلات البنيوية لنسيج الرواية ممثلة في الشخصيات وانتمائها الاجتماعي، ومتوقفاً عند دلالاتها وتسمياتها وصلاتها ببعضها، ومثل ذلك يفعله المؤلف في العناصر الأخرى كالمشكلة الزمنية بتعدد مستوياتها الداخلية والخارجية، والأمكنة وفنية تصويرها وتمثيلها سردياً، ويختم بالتعريف بأحداث الرواية وأفعال السرد وتلازمها البنائي لإنجاز القصة ضمن الخطاب الذي عنى به الروائي وأوكل لرواته وشخصياته فعل إنجازه ورقياً. إن كتاب عثمان تراث يعد احتكاكاً نقدياً لرواية عربية حديثة، بمفتريات نقدية ما بعد بنيوية يستفيد من جماليات التلقي وآليات التأويل، ويقدم أنموذجاً متقدماً لاستيعاب النصوص السردية لا بتلخيص حبكاتها أو التعليق على أحداثها وثيماتها المهيمنة، كما يجري عادة في الدراسات التقليدية حول السرد، بل تتوسل بالتقنيات السردية وعتبات النصوص وموجهات القراءة التي تتصدرها العناوين والأغلفة والاستهلالات والنهايات بجانب دراسة عناصر الرواية: شخصياتها وزمنيتها وفضاؤها المكاني، وأفعال السرد لتخرج بنتائج ليست أحكاماً قيمة بقدر ما هي توصلات نقدية جمالية تخدم القراءات اللاحقة ولا تحصرها في قناعاتها. ويمكن للقارئ حتى في حال عدم اطلاعه على العمل المدروس، أن يستفيد من الفاعلية النقدية التي بذلها المؤلف وأقام ممارسته النقدية على أساسها، فكشف موجهات النص وقرب عتباته كما قارب عناصر الرواية في افتراضات نقدية لها جاذبيتها وجماليتها المجردة كتمونيات قراءة يحتاجها المتلقي المعاصر وتحتاجها التطبيقات العملية للفرضيات المنهجية الجديدة التي يفتقر إليها النقد السردي العربي الذي أخذت النظريات والمقولات والمصطلحات زمناً كثيراً وجهداً فائضاً من لدن المشتغلين فيه. ومثل هذا العمل الذي أنجزه الكاتب عثمان تراث يضيف لفعل القراءة فاعلية وحيوية، كيما يقرب النص لقارئه ويكشف مكنوناته وخفاياه، ما يضيف متعة ولذة لا يقدمها إلا مثل هذه القراءات المستنيرة بالمناهج النقدية الحديثة والمتخذة سبيل التطبيق ومراجعة الفرضيات النظرية على الدوام.