مقدمة: في قضايا المسرح في السودان يأتي الحديث عن المستقبل متأخراً باستمرار، أو انه يأتي متوارياً خلف اهداف وأغراض مفتعلة غالباً. وأغلب مظاهر افتعال هذا الحديث تنبعث من افتعال الطموحات المسرحية بصورة تتجاوز الواقع وتجترئ عليه الى درجة الانفصال والاغتراب عنه. وفي كل الأحوال فإن قضية المستقبل بالنسبة للمسرح السوداني مسألة لا تنطلق من الواقع، وانما من الطموح والحلم. وهنا يقع بيت الخلل في النظر الى المستقبل، وذلك لأنه لا يمكن فك أغلال المستقبل دون انجاز أساس في الواقع. واستبار حقيقة الراهن. وبدون عملية كهذه يصبح الحديث عن المستقبل مقصوداً في ذاته، وفي ذلك خلل تاريخي لا يقود الى استعراض الأفكار في منأى عن تشكيل رؤية عقلانية شاملة. ولا أسعى في هذه الورقة الى دراسة الواقع، فدوننا أبحاث ودراسات كثيرة ذهبت في بحث الواقع المسرحي مدى لا ينقصه العمق والاستقصاء الموضوعي سواء أكان ذلك البحث في النص والكتابة المسرحية ام قضايا الاخراج والتمثيل ام قضايا المشكلات وتأصيل الظاهرة المسرحية. وكلها قضايا قتلوها بحثاً واستقصاءً، فمرة يشعر المسرحيون بسلطة الرقابة فيكلون اليها اوجاع المسرح، ومرة يرون أن المسرح لا ينهض الا بالتكنولوجيا والامكانات المادية والمرافق والخدمات الثقافية، ومرة يجلدون ذاتهم انتقادا لمواقفهم من المسرح. وفي كل مرة لا يبتعد الباحثون عن حدود الواقع، لأن الاختلاف في تحديد تأثيرات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي على المسرح، اختلاف طبيعي ومنطقي، فالواقع ليس رقعة محددة من الأفكار والشروط والمعطيات، انما هو مدى مفتوح لا نقف فيه جميعاً على نقطة واحدة، وانما تتعدد مواقعنا فتتعدد رؤانا ومواقفنا. فكما ذكرت، فإننا لا نفتقر الى دراسة الواقع المسرحي في السودان، فقد كرَّست له الدراسات والندوات والسمنارات، بل الاهتمام بمثل هذه الدراسات تحول الى استعراض واستهلاك للأفكار، ويدخل في سياق الإعلام والترويج لبعض السياسات الثقافية التي تطرحها وسائل الإعلام والأحزاب والبرامج للإيهام بأن المسرح يقع في دائرة الاهتمام، جنباً الى جنب مع الاهتمام بالرياضة والتلفزيون، وعلى هذا المستوى حظي المسرح بالكثير من الاهتمام. وعلى الصعيد العملي فإننا نرى أن مشكلة المسرح كمن يضع العربة قبل أن يعد الحصان، فقد درس المسرح وتم تحديد المفاصل الاساسية لمشكلاته وقضاياه، ولكن ظلت جميع المشكلات دون حلول، بل ان ابسط المطالب يظل منذ الستينيات وحتى الآن دون ان يجد استجابة محددة على صعيد السياسة الثقافية الرسمية للدولة. ومن هنا يكون الحديث عن المستقبل مرهونا بالافتعال، فاذا كنا لم نفرغ من المشكلات الاساسية التي تسيطر على واقع المسرح وهي تشكل واقعا ثقيل الوطء، فكيف يجوز لنا ان نتحدث عن ذلك المستقبل الذي لم يأتِ بعد؟ إن ذلك يجعلنا نرفض الحديث عن أي مستقبل بوصفه مجرد حقبة زمنية قادمة ومتفاعلة مع المسرح بكل ما تحتويه هذه الحقبة من معطيات ثقافية وسياسية واجتماعية، بل أننا نرفض حتى بوصفه حقبة مسرحية مغايرة، طالما ان مسرحنا السوداني مازال يدور في فلك مشكلاته المزمنة البسيطة منها والمعقدة، فإنه لن يدخل مرحلة تفاعل المتغيرات الثقافية والسياسية على الصعيد المحلي والعربي والعالمي. وها نحن اليوم أمام مشهد تقليدي ثابت للمسرح في السودان. ورغم أن عشرين عاماً مضت على واحدة من اكبر الثورات في السودان «ثورة الإنقاذ الوطني» وما اعقبها من تداعيات محلية لا حصر لها وعالمية وما خلفته من تجاذبات وأزمات وتحديات، فإن كل ذلك بين ظهرانينا.. والمسرح بين ظهرانينا ترتهن الاولى بتغيرات عاصفة، بينما يظل المسرح ثابتاً يردد النغمة نفسها ببطء أو بحدة وبخفة او بخفية، ما يجعلنا نتساءل: هل للمسرح السوداني خصوصية تتصل بثبات التقاليد والأفكار؟! أم هي خصوصية الثبات في الثقافة والمجتمع السوداني في العصر الحديث بوصفهما واقعين دخلا عتبات ذلك العصر تابعين، ولكي ينعتقا من هذه الخصوصية لا بد من حركة عنيفة تخرجهما من عصرهما إلى عصر جديد. أقول ذلك والمسرح يسعى لبعث وإحياء القيم الإنسانية الرفيعة في نفوس أبناء السودان، آخذاً في البال معطيات المجتمع السوداني المتعدد الثقافات، ويتيح فرصة الإفادة من كل عطاء أبنائه وتراث الانسانية في مجال علوم المسرح، وذلك لتمكين قيم المجتمع وحركته، ولإبراز نموذج حي للمجتمع السوداني. ولتأمين الأمة السودانية من خطر الافتراس البطئ، ويحافظ على مقومات شخصيتها المتميزة بين سائر الأمم، رغم كثرة الضغوط وضخامة التحديات والمحاولات المستمرة لطمس هويتها وإعادة تشكيلها وفق النمط الثقافي الغربي وصيرورتها مسخا ثقافيا مشوها للآخر، كما يتبدى الآن. إن السودان مقدم نحو تغيرات كبرى من شأنها أن تهدد البناء الاجتماعي والفكري، كما أن انسياب البث الفضائي بصورة مذهلة لم تعهدها البشرية من قبل، بفضل التطور المذهل في مجال التكنولوجيا وبروز ظاهرة العولمة، مما يستدعي الحذر، وتبرز الحاجة لإعمال النظر وتحديد الرؤية حول مآلات ذلك مع مستقبل السودان، ومحاولة تشكيل الواقع الجديد على ضوء مرجعية فكرية واضحة تتجلى في الخطاب المسرحي السوداني، ليأتي التغيير وفق الإطار الذي نخطط له. بالإضافة إلى مسؤوليته التضامنية مع الأجهزة الإعلامية الأخرى كالإذاعة والتلفزيون وغيرها، يعني المسرح القومي السوداني بتقديم الرؤى الفكرية للقضايا الأساسية في المجتمع السوداني في الخطاب المسرحي الذي يستهدف تماسك الهوية وتعزيز القيم. كما أن المسرح معني بذات القدر بإبراز القيم، والتقاليد والأعراف بين الكيانات المشتركة لأبناء السودان رغم التباين، ويعمل أيضا على صياغة وتعزيز الولاء والانتماء القومي لدى الفرد على أساس الموروث المشترك الذي يشكل وجدان الأمة. وبالطبع فإن هذا لا يتأتى إلا بإحداث حراك فكري/ مسرحي بالمركز والولايات على السواء، بالتنسيق مع منظمات المجتمع المدني والواجهات الفكرية، وإدارة حوار فكري/ فني مع النخب الفكرية الوطنية والإقليمية والدولية. مستويات الرؤية: والرؤية هذه التي نقدمها للحوار تنبني على مستويات ثلاثة: 1- مستوى العاملين في مجال المسرح: وفي هذا المستوى لا بد من تنمية قدرات المسرحيين الفكرية والإبداعية بما يمكنهم من أداء دورهم الفكري والفني لتقديم النموذج المسرحي الفاعل. 2- المستوى القومي: بما أن السودان يمر بتحولات وتطورات على صعيد الواقع الفكري والثقافي متمثلة في قضايا السلام والوحدة والتنمية والتحول الديمقراطي والتعددية السياسية والبناء القومي وقضايا المرأة والشباب وحقوق الإنسان، كان لا بد للمسرح القومي أن يسهم في الوفاء بمتطلبات المرحلة من إعلاء لقيم الوطنية والمواطنة التي تقدر كل الجوانب وتعمل على بناء الوحدة من خلال التنوع الثقافي والتعدد الديني والإثني في إطار من الثقافة السودانية الجامعة، وذلك باتاحة فرص التعبير لها والإدارة الراشدة لهذا التنوع وحرية الإبداع المسرحي لبناء النسيج الاجتماعي المتماسك، وهذا لا يتأتى إلا بمسرح فاعل فنياً وفكرياً. 3- المستوى العالمي: يقوم هذا المستوى على قدرتنا على التواصل مع معطيات المسرح العالمي في إطار حوار الحضارات، بما لدينا من فكر وثقافة وموروث حضاري قادر على انتاج اشكال فنية/ مسرحية تقف جنبا الى جنب مع فكر ومسرح الآخر في حوار الندية والتواصل والاعتراف المتبادل، آخذين ما يتوافق مع قيمنا بانتقائية، ونسهم بما لدينا في إثراء التجربة المسرحية العالمية. دور المسرح القومي السوداني: ولما كان المسرح القومي السوداني، مؤسسة ثقافية قائمة على برنامج ومستندة على فكرة (القومية) وصاحب مشروع مسرحي وله استراتيجية، كان لا بد له من دور فكري/ مسرحي يتسق مع المفاهيم والمرجعيات الفنية المستند اليها من نظم فنية وإدارية ودستور انتقالي واتفاقيات السلام الشامل والاتفاقيات الأخرى والاستراتيجية القومية الشاملة، التي في مجموعها تشكل الارضية والواقع الذي ينطلق منه المسرح باعتباره مسرحاً قومياً يمثل كل أهل السودان بتنوعهم الثقافي وتعددهم الديني والعرقي. فهذا الواقع يمثل الشرط الأساسي لتحقيق الفكرة القومية للمسرح. تحليل الواقع المسرحي: بما أن المسرح القومي لا يفتقر إلى الفكرة، انما يحتاج الى انتاج وتسويق الفكرة والرؤية من خلال الابداع المسرحي، ولا يتأتى ذلك الا بالنظر الى واقع العمل المسرحي في السودان بوصفه شرطا لرسم خطوط المستقبل ووضع الاستراتيجيات التي تخطط لعصر مسرحي جديد، ينهض بصيرورة العمل المسرحي في السودان الذي يقوده المسرح القومي وهو مستند الى مشروعه الفني، وبالتالي لا بد من التصدي للمشكلات التي تواجه العمل الفكري/ المسرحي والمتمثلة في: المشكلة الأولى: العمل المسرحي بين السياسة الرسمية والممارسات التطوعية: ظل العمل المسرحي في السودان ممارسة تطوعية شعبية بمعزل عن أي تخطيط ثقافي رسمي، وقد ظل على هذا المنوال طوال تاريخ السودان الحديث والمعاصر، خدين العمل التعليمي (المدرسة) أو المكان العام (النادي) فترة تقارب المائة عام. مما يعني أن البدايات المسرحية لم تخضع على الاطلاق لتخطيط المؤسسة الثقافية الرسمية، وحتى عند ظهور الفرق والجماعات والمواسم المسرحية في الستينيات لم يكن التأسيس نابعاً من توجه ثقافي رسمي، وإنما من التجمعات الثقافية التطوعية التي تحتشد مع حركة القوى الاجتماعية (الحركة الوطنية لتكون روحا عامة أو رأيا عاماً يؤطر ملامح الفترة «العشرينات والثلاثينات والاربعينات.. الخ»)، حتى جاءت مقولة إن العمل المسرحي هو عمل مجتمعي، وتخلت الدولة الى حد ما عن الدعم والتخطيط وترك الامر للافراد ومبادرات المجتمع المدني، الامر الذي خلق اضطرابا في ساحة العمل الفكري والمسرحي، فخرج المسرح من عمليات التنمية الثقافية الى مجرد نشاط. المشكلة الثانية: النمط المغلق والنمط المفتوح: عندما يتلبس الواقع ثوب الماضي، تتوالد انماط لا حصر لها، وبذلك اصبحت طبيعة التفكير والرؤية في العمل المسرحي نمطية الى أبعد الحدود، وهذا يعني أن النمط في ثقافتنا يشمل الافكار والأساليب والمعالجات والحلول التي يقتضيها الاخذ بمنطق الاشياء كما هي أو كما تفرضها الحتمية السائدة في الواقع. لذلك لا يمكن فصل الرؤية النمطية عن الخبرة والتجربة ماضيا وحاضرا. كما لا يمكن فصلها عن المتحقق بصورة عملية لأنها فكر تقليدي ينحصر في التعبير بالتشكيلات الواقعية السائدة للأفكار والصور، وفي واقع العمل المسرحي تتجلى النمطية المغلقة في العمل المسرحي في الكوميديا الفجة، والأشكال المسرحية الهزلية ومسرح المنوعات، وغيرها من الاعمال التي انبتتها ثقافاتنا التقليدية التي تحددها الواقعة او الحدث، ثم لا تنمو ولا تنتهي بما هو مغاير عما بدأت به، فتظل عملاً شائهاً تذروه الرياح، وقد أسقطت كل الاستراتيجيات والخطط، هذه التكوينات النمطية على مجمل العمل المسرحي والثقافي، فلم تنجز عملا مسرحيا مستمرا يؤسس عليه مستقبلا، فأصبح المسرح بلا ذاكرة، وبلا تطور، بل ظل يجتر أنماطه المغلقة ولا يخرج لأشكال مسرحية أكثر فاعلية في البناء الاجتماعي. مقترحات الرؤية: مما عرضنا من مشكلات يؤكد صعوبة تحديد استراتيجية للعمل المسرحي مغايرة لما هو عليه في الواقع الراهن، وقد قرأنا كل ما خرج من أوراق وخطط وبرامج واستراتيجيات منذ اواخر الستينيات بداية المواسم المسرحية وحتى يوم الناس هذا، ووجدنا انها كلها كانت مجموعة من البرامج التي تحكمها نمطية التفكير، بل تكاد تكون نسخة واحدة. وهذه الصعوبة منبعها الواقع الاجتماعي والسياسي، وهذا الاعتراف لا يجعلنا فاقدي القدرة على الإبداع والممارسة لخلق أبنية مغايرة للوعي السائد، ومن ثم فإن المسؤولية تقع على عاتق المسرح القومي بوصفه جزءا من الدولة لطرح استراتيجية للعمل المسرحي والثقافي، تنبني على بدائل أكثر ازدهارا وسموا وتأثيراً. وعلى كل فإن معدل احتمالات المستقبل يشترط أن يؤمن المسؤولون بضرورة العمل المسرحي/ القائد لكل ما هو تنموي حتى نحل اشكالاتنا على ضوء النظر الذي يرى الحقيقي الموضوعي في ما لم يحدث ويمكن ان يحدث، وهذا النظر يضعنا أمام ما يمكن أن يحدث حتى ينهض العمل المسرحي، وذلك عن طريق مستويين: مستوى المسرح القومي: ونحن نؤكد على دور المسرح القومي السوداني حسب وضعه ونظمه واللوائح المنظمة للعمل في برامجه في: 1- تفعيل دور العمل المسرحي بالولايات وربطها بالمركز وفق خطط وبرامج تنسيقية. 2- تكوين منظمات المجتمع المدني المسرحية من فرق وجماعات، والتنسيق بين الواجهات والمراكز المتعاونة مع المسرح القومي السوداني. 3- تفعيل الاتفاقيات الثقافية المبرمة بين الدولة والدول الصديقة والشقيقة في مجال تنمية الفعل المسرحي وتطويره. 4- الاهتمام بالنشر والتوثيق للحياة المسرحية السودانية. مستوى الدولة: ولما كان المسرح القومي أصيلاً في نشأة وتطور المسرح في السودان وهو مؤسسة حكومية قومية، كان لا بد له من الدفع في اتجاه أن تقوم الدولة بالمهام التالية: 1- توفير الموارد المالية وتنوعها، ووضع أسلوب أمثل للصرف على برامج المسرح وخططه من خلال الحرية المالية والإدارية. 2- إنشاء البنيات التحتية التي يقوم عليها العمل المسرحي، وصولاً لمرتبة الانتاج الفني والثقافي والإعلامي. 3- تشجيع الاستثمار في مجال الفنون المسرحية. 4- الاهتمام بالتشريعات القانونية للارتقاء بالعمل المسرحي والمسرحيين وصولا لمستوى المعايير الدولية. 5- تأسيس المهرجانات الدولية والإقليمية في مجالات الفنون المسرحية لخلق التبادل الثقافي. 6- تشكيل هيئة قومية للفنون المسرحية من مهامها وضع استراتيجيات العمل، وتنسيق العلاقة بين المركز والولايات والعمل الرسمي والأهلي، وتنظيم المشاركات الخارجية وإقامة المواسم المسرحية. 7- إدخال برامج دراسة الفنون المسرحية في مراحل التعليم المختلفة لبناء الذائقة الفنية وترقيتها. 8- عقد لقاءات بين المسؤولين في الدولة والمسرحيين، لتبادل وجهات النظر لحل معوقات العمل. 9- الاهتمام بمسرح الطفل والعرائس وتدريب العاملين فيه. 01- منح المسرح تميزاً ايجابياً في الأجهزة الإعلامية، بمنحه حق الإعلان في كافة الوسائط الإعلامية مجاناً. 11- بناء وتأهيل المسارح القومية بالولايات، وإنشاء الفرق القومية للفنون المسرحية. والله ولي التوفيق. د. شمس الدين يونس مدير المسرح القومي السوداني أم درمان 52 أبريل 0102م