ءظل كتاب سفر الرؤيا ظل منذ أن تم تأليفه في الشرق، يتحرك باستمرار نحو الغرب. فقد انتقل من الأندلس إلى أمريكا، حيث نشطت ومازالت تنشط حركة تأويله حتى الآن. وقد ابتدأت عمليات التأويل الأمريكية لسفر الرؤيا جماعات التطهريين، الذين أقاموا مستعمراتهم في الشرق الأمريكي، وأرادوا إنشاء حكومة دينية أقرب ما تكون إلى تلك التي شكلت مجد إسرائيل التاريخية القديمة، وأنكر هؤلاء التطهريون حق المواطنة على من عداهم من المهاجرين، وأقاموا محاكم دينية لإرسال المنشقين الدينيين إلى المشانق. ولكن تكاثر المهاجرين من أوروبا، سرعان ما غمر التطهريين في الأفواج الكثيفة التي حلت بالشرق الأمريكي. ومع أن الآباء التأسيسيين للدولة الأمريكية كانوا يؤمنون بالله دون كتبه ورسله، وصاغوا الدستور الأمريكي ومواثيق المواطنة في أمريكا على هذا النحو، إلا أن ذلك لم يقض على حركة التأويل الديني وأحياناً العلماني لسفر الرؤيا، الذي ظل جاذباً حتى لأكثر المواطنين علمانية. وتواترت تأويلات ونبوءات أمريكية على مدى عقود طويلة بقرب الموعد الذي تقام فيه دولة إسرائيل، وأعلن عام 1800م موعداً نهائياً لقيام تلك الدولة، وانبثاق عهد السلام. وتعهد بعض الكهنة في منطقة نيو هيفين ببناء ميناء ينطلق منه الراغبون في الهجرة من أمريكا إلى إسرائيل. وعندما أعلن ثيودور هرتزل، منشئ الصهيونية، استعداده لقبول يوغندا مكاناً تقام فيه دولة إسرائيل، عدوه مهرطقاً ومعادياً لفكرة رد أرض إسرائيل إلى بني إسرائيل. وفي الخامس من مارس 1891م، أي قبل إصدار هرتزل لبيانه عن تأسيس الدولة اليهودية، كان بعض النصارى الأمريكيين المتصهينين، يضغطون على صناع قرارات السياسة الخارجية الأمريكية ليجعلوا من فكرة عودة اليهود إلى صهيون بنداً في السياسة الخارجية الأمريكية. وهكذا كانت التأويلات الشاطحة لسفر الرؤيا إحدى أهم وسائل تأسيس الدولة الإسرائيلية التي مازالت أداة لتهديد السلام منذ إنشائها، ويصعب أن تكون لها حال غير ذلك. وفي أوائل القرن العشرين انطلقت تأويلات تقول بأن إرهاصات الألفية الجديدة قد بدأت فعلاً، وقد تنبأ البعض، ومنهم القس تشارلز راسل، بأن عام 1914م سيكون يوم القيامة. «لذا فحين أطلقت الطلقات الافتتاحية للحرب العالمية الأولى، اتخذت نبوءته معنى مفاجئاً وعاجلاً، لا لدى أتباعه وحدهم، بل لدى كثرة من المؤمنين الآخرين، وقرروا أنها معركة هرمجدون، وزعموا أن روسيا هي مملكة يأجوج، التي ورد ذكرها في التوراة. وقبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939م جعل البعض يسرف في تأويل شخصيات سفر الرؤيا، لتنطبق على أسماء زعماء من أمثال لينين وستالين وهتلر وموسيليني. وزعموا أن هذا الأخير أقرب إلى أن تنطبق عليه شخصية المسيح الدجال من هتلر لأنه انبعث من روما الوثنية التي كانت تضطهد النصارى في قديم الأزمان. وزعم العالم اللاهوتي راينهولد نيبور أن معركة هرمجدون قد اقتربت، وأن تاريخ الإنسان قد أخذ يغذ الخطى نحو ذروة يتجلى فيها الشر عرياناً متوقحاً. وعندما نجحت تجربة تفجير أول قنبلة ذرية في السادس عشر من يوليو 1945م، في صحراء نيو ميكسيكو، أسفر متأولو سفرالرؤيا عن ابتهاجهم العميق لتطابق الحدث المذهل مع مقطع في النص الرؤيوي يقول: «ومن العرش يخرج بروق ورعود وأصوات وأمام العرش سبعة مصابيح نار متقدة هي سبعة أرواح الله وقدام العرش بحر زجاج شبه البلور»! وكان قيام دولة إسرائيل بعد ذلك بسنوات قلائل، مما عزز جانب أصحاب النبوءات، فألقوا في رُوع الناس، أن الساعة الإلهية التي توقفت لمدة ألفي عام، قد بدأت تدق من جديد، وكانت تلك أكبر آية زادت نفوذ أصحاب النبوءات وسط الأمريكيين. وفي بعض أحايين قليلة انكشفت بعض خبايا البروتستانت المتصهينين، حيث ذكروا ما يعتقدونه من تأويل لسفري الرؤيا وأشعيا، لا يسر الإسرائليين، ومن ذلك قولهم إن المسيح الدجال سيساعد اليهود على إعادة بناء الهيكل، ويقنع الكثيرين منهم بأنه المخلِّص الحقيقي، وأنهم سيعبدونه ويرفعون صورته فوق الهيكل، ثم يكفر به بعضهم ويؤمنون بالميسح، وهؤلاء سينجون، بينما تهلك بقية بني إسرائيل. وهكذا كما تقول البروفيسور كارين آرمسترونغ، في كتابها «معارك في سبيل الإله: الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام»:« ففي الوقت نفسه الذي احتفى فيه الأصوليون البروتستانت بمولد إسرائل الجديدة، كانوا يطورون «فانتازيا» الإبادة الجماعية لهم في نهاية التاريخ، فقد وجدت دولة إسرائيل فقط من أجل التحقق الأبعد للمسيحية»! ومع اقتراب ميعاد الألفية الثالثة، تزايد الهوس الديني في الولاياتالمتحدة، ولم ينحصر مداه على نطاق الأوساط الشعبية البسيطة، ولكن تعالى ليبلغ قمة الهرم الاجتماعي والديني والسياسي في تلك البلاد. وتكاثرت النبوءات التي تقول بأن نهاية الزمن أصبحت قاب قوسين أو أدنى، وساعدت البرامج الإذاعية والتلفزيونية في نشر المواعظ والنبوءات. وتولى كبر هذه الدعاوى الخطيرة قسس من أصحاب النفوذ الهائل منهم القس هال لينسي وبيلي جراهام وجيم بيكر وجيمي سواجارت وجيري فولويل وتيموثي لاهي وبات روبرتسون، وغيرهم من دهاقنة القسس والقادة الدينيين الذين كانوا على صلات كبيرة بالأوساط السياسية والإعلامية والأكاديمية وأوساط رأس المال. وكمثال لما ظلوا يقولون، فقد نشر الدكتور والواعظ اللاهوتي الشهير هال ليندسي، في أوائل سبعينيات القرن الماضي، كتابه «كوكب الأرض العظيم الراحل» الذي وزعت منه ملايين النسخ، وزاد عدد المطبوع من كتابه أكثر مما طبع من الإنجيل نفسه. وقد ادعى في كتابه التأويلي هذا أن مشيئة الرب لنهاية العالم قد أصبحت عاجلة التنفيذ، وأنه في مرحلة قريبة ستكون هناك فترة سبع سنوات تبلغ ذروتها بعودة المسيح المشهودة لأهل هذا الكوكب الذي هو على وشك أن يرحل من الوجود. وأن المسيح سيأخذ معه كل من آمنوا به، ويدمر أعداءه الذين أحيوا الامبراطورية الرومانية، ويحطم يأجوج ومأجوج «يقصدالاتحاد السوفيتي السابق»، ويهشم مملكة الشرق«يقصد جمهورية الصين الشعبية» في معركة هرمجدون المهلكة. وقد ذكر القس بيلي جراهام في عام 1977م محرضاً الأمريكيين للاستعداد للحروب الأصيلة التي تنتهي بتدمير الأرض: «إن يوم «مجدو» على المشارف، وإن العالم يتحرك بسرعة نحو معركة «مجدو»، وإن الجيل الحالي سيكون آخر جيل في التاريخ، وإن هذه المعركة ستقع في الشرق الأوسط»!