يلتئم مجلسنا نحن مجموعة الأطباء النفسانيين المهووسين بالشعر مساء الخميس من كل أسبوع بحديقة نادي الأطباء... تحتضننا حديقة نادي الاطباء الجميلة بحنو بالغ... تحيط بنا الخضرة من كل الجهات... أزهار وورود عديدة تحيط بالنجيل الأخضر وشجيرات صغيرة مشذبة بعناية فائقة... رائحة الارض المبتلة المختلطة بشذى الازهار العديدة تضمخ الفضاء بعبق لا يمكنك تخيله... ولا يمكنك أن تتخلص من رائحته حتى بعد مرور أيام عدة... النافورة الصغيرة التي تتوسط الحديقة ترسل إلينا بين الحين والآخر رذاذاً خفيفاً من المياه المتدفقة من فم الغزال الصغير الذي صممت النافورة على هيئته... هنا تتوفر الخضرة والماء... ويتوفر الشعر. ما الذي جمعك بنا؟... نحن مجموعة الاطباء النفسانيين المهووسين بالشعر...؟ اصبحت جزءاً مهماً منا... لا تكتمل دورتنا إلا بحضورك الانيق... نتحول جميعنا محض آذان حال شروعك في تلاوة قصائدك الجميلة والمهموسة... طريقتك المتفردة في الالقاء... وقدرتك اللا متناهية على التعبير... كنت تأخذ بألبابنا... نحلق معك بعيداً... بعيداً... ونعود سحابات من دهشة... الأكثر ادهاشاً في كل ذلك هو عدم معرفتنا جميعاً بكيفية انضمامك إلينا... اذكر طلتك الاولى ونحن جلوس في تلك الامسية... جميعنا كنا هناك... رائحة الورود والارض المبتلة وذلك العبق... يختلط بالعطر الذي ينبعث منك وانت تخطو نحونا بقامتك المديدة وجسدك الذي يميل إلى النحافة... ثيابك الانيقة والمتسقة تُنبئ عن ذوق رفيع... حذاؤك الاسود اللامع... شعرك وذقنك الحليقين... شاربك الرفيع. أسوأ ما في طلتك هو قطعك لحبل القراءة... انقطع دكتور أحمد عن الاسترسال في قصيدته التي كان يتلوها... ويبدو انه احس بتحول العيون جميعها عنه إليك... ألقيت التحية مهموسة... وجلست دون ان تصافح أحداً... وعاد دكتور أحمد إلى تلاوة قصيدته... لم يسألك أحد منا من تكون... من أنت؟؟ ومن أين أتيت؟ ولم أتيت؟ وما توصلنا إليه حقاً هو أنك اصبحت جزءاً منا... وجزءاً جميلاً... لا ينكر احد انك اصبحت مركز الدائرة... طعم جلساتنا اصبح مختلفاً... اضافة إلى قدرتك العالية على قراءة الشعر فإن الموضوعات التي كنت تطرحها بين الحين والآخر كانت تصيبنا بنوع من الذهول وقناعة بما نعاني من فقر في المعرفة بالمقارنة مع الكم الهائل من المعارف التي تتدفق منك... لم تكن لدينا القدرة على تحمل هذا الانقطاع المفاجئ منك... بينما تتواصل جلساتنا تشكل أنت غياباً مخيفاً ومقلقاً... اكتشفنا لتونا اننا لم نسع إلى معرفة الشيء الكثير عنك... كامل هو اسمك... هذا ما عرفناه... كامل من؟ لا أحد يدري... ماذا تعمل...؟ لا أحد يدري أين تقيم؟ لا أحد يدري؟ رقم هاتفك؟ ايضاً لا أحد يدري.. كيف بالله فات علينا جميعاً معرفة هذه الأشياء الأساسية. يبدو أن هذا المساء كان مختلفاً عن أمسيات كثيرة... المكان هو المكان... الزمان هو الزمان... تنبئنا السماء بأنا في بدايات الخريف... اللون الداكن... النسمات الباردة... وسحابات عديدة ترتحل أمام أعيننا... بعض الرذاذ الخفيف يتساقط ثم يتوقف... ثم يختلط بالرذاذ المتساقط من النافورة التي على هيئة رأس غزال... الشجيرات الصغيرة المشذبة بعناية فائقة تتمايل جزلى... الأزهار والورود تبدو أكثر تألقاً... أما ذلك العبق... فآه منه ذلك العبق... اختلط هذا المساء بعطر آخر... عطر ما صافح أنوفنا قبل... أصبح العبق الذي اعتدناه عبقاً آخر... احتوانا جميعاً... جميعنا لم نكن في انسجام وتوحد مع القصيدة التي كانت تتلوها دكتورة أمل... الطبيبة حديثة التخرج التي انضمت الى مجموعتنا هذا المساء... كنا على انسجام تام وتوحد مع العطر الذي يفوح منها.. هذا الانسجام والتوحد الذي حدث لحظة عبورها بوابة النادي... انسجم عطرها اللا معقول مع نسيمات بدايات الخريف ورذاذه.. واقتحم قلوبنا المقفرة التي انتفضت كعصفور تساقط عليه البلل... وحرصنا على أن نبحلق داخلها وان نحفز انوفنا على ارتشاف ذلك العطر... لم يحسك أحد وأنت تعبر بوابة النادي بخطواتك الرشيقة ووقع حذائك الأسود اللامع... ولم يحسك احد وانت تعبر الى الحديقة... تجلس الى جواري فأميزك ولا أحسك... فأنا مبحلق بعيني وأنفي... لست انا وحدي جميعنا كنا محض عيون وأنوف... لو كان حضورك في غير هذا المساء لضج الجميع فرحاً بحضورك، ولترك الجميع مقاعدهم وهبوا إليك يعانقونك ويسألونك عن ذلك الغياب الطويل... وحين فرغت دكتورة أمل من قراءة قصيدتها نهضت واقفة وابتسامة كبيرة ترتسم على وجهها الجميل... اختلط ذلك العطر اللا معقول مع رذاذ المطر والرذاذ المتدفق من النافورة التي على هيئة رأس غزال... بصوت منغم استأذنت في الانصراف لارتباط مسبق... وما أن خطت بقدميها الرقيقتين نحو بوابة النادي.. حتى انفلت أنت وراءها كالقذيفة... وجدنا أنفسنا جالسين كما كنا صامتين على غير العادة وأنوفنا مشرعة ذهبت هي وأنت وراءها... وبقينا نحن والحديقة والرذاذ المتساقط من السماء وذلك المتدفق من النافورة التي على هيئة رأس غزال وذلك العطر اللا معقول. أصبحت في الآونة الأخيرة تشكل حضوراً دائماً ومميزاً... وتحرص في كل مرة على أن يكون مقعدك مجاوراً لدكتورة أمل... اهتمامك بها لا يخفى على أحد.. الجميع يلحظون ذلك... وهي بلا شك تلحظ ذلك جيداً... ازدادت معارفك تدفقاً عما هي عليه في السابق... أصبحتما تأتيان معاً وتخرجان معاً... ونبقى نحن والعطر بعد خروجكما... نحدق في اتجاهكما وأنوفنا مشرعة. أصبح الحديث عنكما مادة محببة إلى نفوسنا.. نستغل تلك الدقائق القليلة التي تسبق حضوركما في الحديث عنكما... كنتما رفيقين مثاليين... مقدرتكما على تناول الشعر وقضاياه لا تضاهى... طلتكما الانيقة... كل شيء... كل شيء فيكما كان رائعاً... وبدأنا في تلك الدقائق المعدودة نرسم لكما مستقبلاً محدداً... مستقبلاً لزوجين رائعين. تحضر أنت هذا المساء وحيداً تخطو نحونا باناقتك المعهودة.. يسبقك حذاؤك الأسود اللامع وأنفك... تتسارع خطواتك وأنت تفتش المكان بعينيك وأنفك... ينبئك ذلك الأنف الذي نبت له قرنا استشعار بأنها ليست هنا.. وتسيطر علينا جميعنا الدهشة كونك تأتي وحيداً من دونها.. أين هي؟ لم يتجرأ أحدنا على سؤالك، جلست بعيداً تحدق فينا ومدخل النادي، كنت في تلك الأمسية تجلس إلينا بنصف عقل ونصف إحساس.. تتوالى القراءات وأنت تركن إلى صمت عظيم... ودونما استئذان تنهض واقفاً ويحتويك الشارع العريض. خلت الأمسيات التي أعقبت هذه الأمسية منكما الاثنان... لم نرك بعدها ولم نرها هي... نجد أنفسنا على الدوام نتطلع الى المدخل كل لحظة والاخرى... جميعنا كان يأمل في رؤيتكما سوياً وانتما تعبران المدخل إلى الحديقة... غبت أنت وغاب ذلك العطر اللا معقول... لمحتك ثلاث مرات في أماكن عامة وانت تخطو سريعاً خطواً اشبه بالهرولة يسبقك أنفك... لم اتمكن في كل تلك المرات من اللحاق بك او اسماعك صوتي... حدثني الكثيرون عن رؤيتك وأنت تهرول في تلك الاماكن العامة... اكتسى مجلسنا ذلك الانيق بمسحة من حزن مقيم.. اضافة الى غيابكما المؤثر... كان هنالك سؤال ملح ما الذي جرى لكما؟ وازدادت رقعة الحزن بذلك المجلس حين علمنا بأمر انتقالي الى مستشفى آخر بمدينة أخرى.. وكان لا بد من وداع... كان وداعاً صامتاً... لا أحاديث ولا شعر.. وداعاً حزيناً... يبدو أن عقدنا المنتظم منذ زمان قد أخذ في الانفراط... حبة فحبة... لم يبق هنالك إلا دكتور أحمد ودكتور عثمان ودكتور خالد.. وحديقة جميلة تتوسطها نافورة على هيئة رأس غزال والرذاذ والورود والأزهار وذلك العبق. أخذت عهداً عليهم بألا انقطع عنهم.. وقلت بأنني لست على استعداد لفقدانهم إلى الأبد... وسأعمل على زيارتهم كلما تيسر ذلك... ارتباطنا كان قوياً.. وكنا نقترب من بعضنا البعض كلما تطاول الزمن... كانت لديَّ بقية أمل في التواصل معهم رغم بعد المسافة.. ولكنني كنت حزيناً بوجه خاص لفقدك ودكتورة أمل... كنت على يقين تام بأني لن أراكما مرة أخرى... وأكثر يقيناً في عدم رؤيتك أنت على وجه التحديد.. غير اني كنت مخطئاً تماماً في ذلك، فمن أين لي أن أعلم أنك كنت تشغل الغرفة رقم «10» بذلك المستشفى الآخر بالمدينة الأخرى.