تترادف العبارات وتتطابق المعاني والامثال بحيث انه «لا يفيد البكاء على اللبن المسكوب و «ان البكاء لا يعيد الميت» وهذا ما ينطبق عل مآلات ومصير «الوحدة» التي بدأت تتسرب كرمال ناعمة من بين أيدي الساسة في بلادي، وهذه الايام ارتفع الصراخ والنواح والبكاء، بعد ان اقتربت مواعيد «المصير» المحتوم، فقد تفتحت اكمام العاطفة بعد فوات الاوان، ولكن هل ينفع البكاء، ويبقي السؤال ماذا فعلنا للوحدة؟ وتبقت شهور معدودات من تقرير المصير الذي كفلته اتفاقية السلام الشامل لأهلنا في جنوب السودان، وهم وحدهم من يقررون المصير وحدة ام انفصال، وان كان اتفق الشريكان المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بدعم خيار الوحدة بجعلها جاذبة ببسط اذرع التنمية في الجنوب الذي يحتاج الى الكثير من الخدمات من اجل ترغيب الموطن الجنوبي في الوحدة، والاستمرار تحت مظلة السودان الواحد الموحد بحدوده الجغرافية المتعارف عليها. ولكن للأسف كل المؤشرات لا تبشر بخير بأن يصبح السودان موحداً يجمع بين الشمال والجنوب، ومنذ البداي أطلت سحائب التشاؤم حاجبة بريق الوحدة، الذي بدا خافتاً بعد ان اصبحت المشاكسات والمشادات بين شريكي الحكم صفة ملازمة لتنفيذ بنود اتفاقية السلام التي أفرزت كثيراً من الخلافات والمشاكل بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، مما اعطى انطباعاً سالباً لكل المتابعين والمراقبين بأن مصير الوحدة مهدد بالإنقراض، وذلك للخلافات المتجددة في ابسط الأشياء مما يعني استحالة ان يقدم الطرفان الحاكمان تنازلات من أجل الوحدة، فحالة التنافر بين المشروع الحضاري ومشروع السودان الجديد كانت مؤشراً غير مرئي في ذلك الوقت يهدد مصير الوحدة الجاذبة في ظل غياب الإرادة الحقيقة وهي المحك و «عامود النص» الذي يُبقي على عرش الوحدة. وبعد ان بدأت عملية الاقتراع التي كان لنا نصيب ان نشهدها في جنوب البلاد وتحديداً في مدينة جوبا، وقفنا على الحقائق من قرب، وكان أكثر المتفائلين يتوقع ضعف الإقبال على صناديق الاقتراع، ولكن تفأجا المراقبون منذ اليوم الأول بالضغط الكثيف من الناخبين الجنوبيين على نقاط الاقتراع، وكانت الصفوف الطويلة والمتعرجة خير شاهد على ذلك، ورغم الإشكالات التي صاحبت عملية الاقتراع من حالات تمثلت في سقوط الاسماء في بعض المراكز، لم نلاحظ حالات السأم والملل تسيطر على الناخب الجنوبي الذي كان أكثر صبراً مما توقعنا، فلم تثنه الشمس الاستوائية الحارقة، بجانب هطول الامطار المفاجئة عن التزحزح من الصف الطويل، فاقتربنا من الناخبين لنعرف سر الاصرار والحافز الداخلي الذي يدفعهم لممارسة حقهم الديموقراطي، فكانت الاجابات متطابقة الي حد كبير وانحصرت في مقولة «انتخابات ده بجيب استفتاء»، وعندها ادرك المتابعون حرص المواطن الجنوبي على إنجاح العملية الانتخابية من اجل الاستفتاء وتقرير المصير الذي ينتظره الجميع، ويبقى السؤال الموضوعي، اذا كان الشعب الجنوبي متمسكاً بخيار الوحدة، فلما هذا الحرص الغريب والتشدد في اجراء الاستفتاء في موعده؟ وأثناء وجودنا في جوبا ايام الاقتراع حرصنا على زيارة مركز الاشعاع المعرفي جنوب البلاد، جامعة جوبا التي ضمت وقتذاك مركزين للاقتراع، وكان اول ما لفت انتبهانا منذ ان دخلنا الى سوح الحرم الجامعي الملصقات التي تنتشر كما النار في الهشيم على جدران الجامعة، وهي بمثابة رأي فعلي يمثل الطلاب، فكانت الملصقات بخط عريض مكتوب عليها «الجنوب للجنوبيين» وأخري «نعم للانفصال» وأخرى «الانفصال خيارنا». وفي داخل الجامعة تحدثنا مع الدكتور هنري كيجي عن رأيه في الوحدة، فقال: «تقرير المصير هو حق منحته اتفاقية السلام للمواطن الجنوبي اذا أراد ان يواصل الاستمرار في ظل البلد الكبير السودان، او ينفصل عنه ويقيم دولته وحده». وبلغة بسيطة اضاف هنري: «السودان ده يا هو كبير ونحن اذا قعدنا بنعمل مشاكل يعني احسن طلاق بي معروف». ولكن رغم ذلك كان الأمل كبيراً عند بعض أهل شمال السودان في أن يبقي خيار الوحدة صامداً رغم الظروف المحيطة، ولكن بدا هذا الأمل يتلاشى شيئاً فشئياً بعد المآلات الاخيرة في ليلية تنصيب سلفا كير. وخلال عودتنا في المرة الثانية الى جنوب البلاد لمتابعة الحدث الاول من نوعه في تاريخ الجنوب، وذلك بتنصيب اول رئيس لجنوب السودان بصورة ديموقراطية، لمسنا أن الوحدة اصبحت لا تعني شيئاً ليس من قبل حكومة الجنوب بل من المواطنين الجنوبيين انفسهم. وعقب نهاية احتفال تنصيب رئيس حكومة الجنوب المنتخب سلفا كير ميارديت، أجرينا استطلاعا لعينات عشوائية من المواطنين الموجودين في مكان الاحتفال، واستطلع الزميل احمد دقش من صحيفة السوداني«100» مواطن منهم «17» فقط أمنوا على الوحدة و«83» مؤيدون للانفصال عن الشمال، مما يعني أن الانفصال اصبح امراً واقعاً ومحسوماً الا اذا حدثت معجزة. وسبق تنصيب سلفا انتخاب رئيس برلمان الجنوب جيمس واني ايقا الذي نال ثقة الأعضاء، وقبل بداية الجلسة الافتتاحية للبرلمان هتف بعض أعضاء المجلس وأغلبهم من المستقلين بإعلان الانفصال من داخل البرلمان، وهي صورة حية تعبر عن رأي لشريحة مهمة لها تأثير كبير على الشارع الجنوبي. وترأس الجلسة اكبر الاعضاء سناً البروفيسور باري وانجي الذي قال: «نحمد للثقافة الافريقية التي دائما ما تمنح الفرصة للكبار» واضاف وانجي: «إننا نتطلع الى تقرير المصير لجنوب السودان، وسنسعى الى هذا الخيار، وسنمهد لهذا الشعب الطريق للتصويت للاستقلال، لأن اغلب شعبنا لا يتوقع سوى الانفصال كخيار جاذب له، وسنسعى لكي يحترم خيار هذا الشعب»، وهي رسالة واضحه المعني والمضمون ترجح كفة الانفصال الذي اصبح قاب قوسين او ادنى، واصبحت المسألة مسألة وقت ليست الا. وفي اجواء احتفالية وتدافع جماهيري كبير لمواطني ولاية الوسطى بجوبا في صبيحة تنصيب سلفا كير، اشرق الصباح في جوبا مختلفاً تماماً يحمل ملامح وتفاصيل لبداية مرحلة جديدة لتاريخ جنوب السودان، حيث شهدت الشوارع ازدحاماً منذ بواكير الصباح الى مكان اللاحتفال الذي نظم في ضريح الاب الروحي للحركة الشعبية القائد الراحل دكتور جون قرنق ديمابيور، وللمكان خصوصية ودلالات ورمزية واضحة، بمثابة رد الجميل الى دكتور جون ومواصلة مشواره الذي لم يكتمل في حياته. وخاطب الرئيس المنتخب الجماهير الحاشدة المتحمسة بالزغاريد والتصفيق، وتعهد سلفا بالعمل على وحدة شعب الجنوب، وبسط الحريات، والتركيز على تنمية الريف، معتبرها اساس السلام والامن في الاقليم، كما التزم بأن يكون رئيساً للجميع ولكل الجنوبيين الذين صوتوا له والذين لم ينتخبوه، متعهدا بعدم العودة الى مربع الحرب بين الشمال والجنوب مرة اخرى مهما كانت الظروف، على الرغم من المشاكل العالقة كترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، واشار الى انه يمكن التوصل الي اتفاق وحلول بشأن تلك المسائل خلال الفترة القادمة. والملاحظة المهمة في خطاب سلفا انه تحدث مع الجماهير باللغة الانجليزية طوال فترة الخطاب الذي استمر لاكثر من ساعة ونصف الساعة، ولم يتحدث باللغة العربية الا في عبارة واحدة قال فيها «مضي زمن الحديث عن الوحدة» ومن ثم عاد الى الانجليزية وأشار الى ان المؤتمر الوطني انحاز الى الوحدة ولكنه لم يجتهد في أن يجعلها جاذبة للجنوبيين، وانه حان الوقت لكي تحدد الحركة الشعبية خيارها. وبتلك العباره قطع سلفا «شعرة معاوية» وما تبقى من أمل في الوحدة. واعتبر سلفاكير هذا اليوم نهاية عهد وبداية صفحة جديدة لتاريخ الجنوب، بعد ان تعهد ببسط الحريات والعدالة والمساوة بين الجميع. وفي حديثه لوسائل الاعلام قال الامين العام للحركة الشعبية باقان اموم: «كان من المفترض ان يكون خيار الوحدة جاذباً للجنوبيين خلال الفترة الماضية، ولكن لم يحدث ذلك». واضاف قائلاً ان الدولة السودانية مازالت تمارس النظرة الحزبية الضيقة واقصاء الآخر، خاصة في الخدمة المدنية التي قال انها اصبحت تسيطر عليها مجموعات محددة. وأضاف اموم: «كيف لنا ان نتحدث عن وحدة الجنوبيين ولم نوفي بأبسط الالتزامات تجاههم، ولم يتم منحهم حتى الآن نسبة «30%» من الوظائف، ولم يتم إجراء تطوير في الأداء الدستوري لكي يتسع لكل السودانيين، ولكل هذه الاسباب لم تصبح الوحدة خياراً جاذباً، ولذلك ارجح ان يختار الجنوبيون الانفصال عن طريق حقهم الديمقراطي تقرير المصير». وفي رده على سؤال «الصحافة» عن امكانية اعلان الانفصال من داخل البرلمان، قال اموم «إن الحركة الشعبية ملتزمة بتنفيذ بنود اتفاقية السلام الشامل التي من ضمنها الاستفتاء»، مضيفاً أن الخيار في نهاية الأمر يرجع إلى شعب جنوب السودان، وأن برلمان الجنوب في حالة الممطالة في تأخير وقت الاستفتاء والتلاعب بمصير الجنوبيين، فعندها لكل حادث حديث، وإن البرلمان الذي يمثل الشعب سيتخذ ما يراه مناسباً وقت ذاك. ما سبق إشارات ومواقف توضح ما وصل اليه مصير الوحدة التي باتت مهددة بالانقراض في ظل حالة التباكي على هذا المصير القادم، ولكن يبقى سؤال عريض ماذا فعل الشريكان «المؤتمر الوطني والحركة الشعبية» بعد أن اتفقا على أن يعملا سوياً على جعل الوحدة خياراً جاذباً لأهلنا في الجنوب؟