لعل أكبر دليل على التأثير الكبير الذي أحدثه الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة الذي رحل عنا الجمعة الماضية، هو أنه جعل من كاتب الدراما نجم الشباك الأول الذي يعطي العمل شهادة الجودة والإبداع. وعلى الرغم مما يُشاع عن عكاشة بأنه ناصري الميول، إلا أنه في اللقاء الذي أُعيد في يوم رحيله وحاورته فيه القديرة منى الشاذلي في برنامج «العاشرة مساءً»، أكد عدم وجود فكر سياسي بمسمى «الناصرية»، ومضى أكثر حيث قال إنه يتفق مع بروز عبد الناصر باعتباره «كاريزما» سياسية مناهضة للاستعمار وساعية لتحقيق تحول اجتماعي ايجابي في المجتمع المصري، إلا أنه لا يبرئ عبد الناصر من تكميم الحريات وازدراء الديمقراطية وتأميم الصحافة وحظر الأنشطة الحزبية، وهو الأمر الذي قاد إلى هزيمة 67م في نظره. وفي ذات اللقاء أكد الكاتب الراحل أن الشخصيات التي ينسج خيوطها في أعماله الدرامية، يجب أن تغلب عليها الصبغة الرمادية، إذ لا يوجد في الحياة تجذر محض للأبيض أو الأسود، بمعنى أنه لا يوجد إنسان هو محض خالص من الشر أو الخير، ولكن النفس البشرية عبارة عن تمازج رمادي بين هذا وذاك.. وهذا ما يعطي الشخصية الصدق والقبول لدى المتلقي. والأمثلة كثيرة على صدق ما ذهب إليه، فالشخصيات المحورية في عمله الدرامي الكبير«ليالي الحلمية» تجسد هذا المفهوم.. شخصيات مثل سليم البدري «سليل الباشوات الارستقراطي» والعمدة سليمان غانم «الفلاح الذي يحركه القهر والثأر من غريمه الباشا»، وضابط الثورة الذي قاد المقاومة الشعبية في بورسعيد وانتهى به الحال أن يعتاش على زواج من راقصة صاحبة «كباريه»، والمعلم «بسة» وصبيه اللذان كانا من حثالة المجتمع يكدحان في جمع أعقاب السجائر من الطرقات، فأصبحا من أثرياء عهد الانفتاح الساداتي عبر الأنشطة الطفيلية مثل تجارة العملة وتوظيف الأموال بعد أن لبسوا الجلباب الأبيض وأطلقوا لحاهم، والعامل زكريا الذي بدأ حياته مناضلاً نقابياً وانتهى إلى بيروقراطي يعلو وضعه في جهاز الدولة يوماً بعد يوم، بعد أن استبدل «الأوفرول» بالبدلة والكرافتة، وأخيراً الشاب علي البدري ابن سليم البدري الذي آمن بفكر الثورة اليساري الاشتراكي، وعمل في تنظيمها الطليعي، وانتهى به الأمر مسجونا سياسيا، فكفر بكل الحلم السياسي النبيل الذي عاشه في شبابه، وأصبح رأسمالياً ذا أنياب حادة في عهد الانفتاح. ذاك هو المبدع أسامة أنور عكاشة الذي رحل مخلفاً وراءه أعمالاً درامية رائعة، منها «الشهد والدموع».. «الراية البيضاء».. «زيزينا».. «ليالي الحلميَّة»..«أرابيسك».. «ضمير أبلة حكمت».. «رحلة السيد أبو العلا البشري» وأخيراً «المصراوية».