لعلها فرضية بديهية في فن الإبحار، والتي تقول إن السباحة مع التيار أهون وأسهل من منازلة المياه صعوداً بعكس التيار، ولكن يبدو أن قيادات الحركة الشعبية آثرت الصعب وأعرضت عن الإبحار المنطقي السهل، وهي تسوق مركبها باتجاه منابع النيل وبحيراته، غير عابئة بوعورة المسلك وتلاطم الموج الهادر، لتمضي جنوباً وتنسج أمتن الوشائج السياسية والاقتصادية مع دول الجنوب، مثل كينيا ويوغندا وغيرها من دول المنبع. وهذا الانكفاء جنوباً من قيادة الحركة الشعبية، تقابله في نفس الوقت تقطيبة «وربما تكشيرة» ترتسم على الوجه باتجاه الشمال، كأن قرنين من الزمان ارتبط فيهما الجنوب بالشمال بات حصادها هباءً منثوراً. ما الذي تغير وما الذي حدث؟ هل بات مشروع الحلم القديم بسودان جديد ديمقراطي وموحد.. هل بات جزءاً من التراث السياسي و«فلكلوراً» عفى عليه الزمن وذرته الرياح الاستوائية التي أسقطت طائرة جون قرنق على هضاب الاماتونج ؟! لطالما صرح جون قرنق في سنوات التسعينيات الماضية أن ما يفرق بين حركته وأولئك الذين أبرموا مع الحكومة في ذاك الوقت مواثيق للسلام في الخرطوم وفشودة وعلى رأسهم ريك مشار ولام أكول وكاربينو كوانين وأروك تون وغيرهم.. إن هؤلاء انفصاليون حتى النخاع، بينما هو وحركته وحدويون حتى النخاع !! مرة أخرى نتساءل.. ما الذي حدث .. ولماذا الانكفاء جنوباً والإعراض عن «مانفيستو» الوحدة بعد سنوات أمضاها القادة الجدد للحركة في سنام السلطة في الجنوب، استطاب لهم فيها العيش وسط المخصصات والمناصب وحصة وفيرة من دولارات النفط؟ هل غاب المايسترو وراحت الفرقة الأبنوسية تعزف من خارج النوتة الموسيقية نغمة ناشزة تمجد الانفصال وتزدري الوحدة ؟! هذا الانكفاء والإبحار بعكس التيار جنوباً نحو دول المنبع لا ينم إلا عن مؤشر واحد يؤكد الرهان على خيار الانفصال، الذي تستطيبه وتتمناه وتترقبه تلك الدول تماماً كما تترقب الضواري الغزال الشارد عن القطيع في الأحراش الاستوائية. لعل تقرير «مجموعة الأزمات الدولية» الذي أصدرته من العاصمة الكينية نيروبي في 6 مايو 2010م يؤكد هذا الأمر، إذ يرصد التقرير قنوات التعاون الاقتصادي ما بين كينيا وجنوب السودان، فيتحدث عن نشاط الكينيين في القطاع المالي لجنوب السودان كالإنشاءات والنقل الجوي وتطوير البني التحتية وأسواق السلع. كذلك يتناول التقرير دراسات لإنشاء خط أنابيب بطول «1400» كلم ينقل نفط الجنوب إلى الموانئ الكينية بكلفة تبلغ «1.5» مليار دولار كبديل عن خط الأنابيب الذي يصل حقول النفط بميناء بورتسودان. هذا ما كان في شأن كينيا، أما عن يوغندا فيمضي التقرير في تقصي آمالها وتطلعاتها نحو جنوب منفصل ومستقل ترى فيها حقلاً خصيباً واعداً يضخ المال والدماء في شرايين الاقتصاد الاوغندي، يقول التقرير «ومع أن يوغندا لا تملك العضلات الصناعية أو المال مثل كينيا، فإن تجارة كمبالا تزدهر مع جنوب السودان، وبلغت الصادرات اليوغندية للجنوب أكثر من 250 مليون دولار في عام 2008م بزيادة ثلاثة أضعاف عما كانت عليه منذ 2006م، مما يجعل الجنوب أكبر مستورد للسلع اليوغندية في العالم». وعندما شرَّعت اتفاقية نيفاشا وقننت لضرورة العمل على جاذبية الوحدة، لم يكن هذا التكليف مقصوراً على طرف دون الآخر، بل لم يكن مقصوراً على طرفي الاتفاق لوحدهما، إذ تعداهما ليكون التزاماً على كافة القوى السياسية والاجتماعية والمدنية في السودان، لهذا يصبح مثل هذا الانكفاء باتجاه الجنوب الأفريقي بأبعاده السياسية التي تتجاوز كل الطموحات الاقتصادية المشروعة.. يصبح تنصلاً بائناً وصريحاً من الوحدة، ورصيداً مقدراً يودع في حساب الانفصال.. لا نقول هذا من باب الوصاية السياسية ولكن انصياعاً لمنطق يرى في الوحدة مشروعاً واعداً بالخير والنماء لأهل الشمال والجنوب معاً، يربحون به إن أفلح ويخسرون كل شيء إن أخفق.