سعدنا في غربتنا لبعض الوقت بحلقات قناة النيل الأزرق « عبر الانترنت «حول شاعرنا الأمدرماني الهمام صالح عبد السيد أبو صلاح، وبثقافة مقدمة البرنامج وطلتها الجميلة كما يقول اللبنانيون ،وبإضافات ضيوف الحلقة المتميزين ومعلوماتهم الثرة حول فارس من فوارس الحقيبة وشعرائها الفحول. وأبو صلاح يعني عندي أم درمان بكل كنوزها الإبداعية وأسرار جمالها معنى ومبنى. وما آمله من قناة النيل الأزرق الاتجاه إلى التوثيق الإبداعي لهذه المدينة ومبدعيها ، سيما وأن معظم القنوات الخاصة المتميزة ولعل مصر هي الأقرب مثالا تخلد ذكرى مبدعيها في صور مختلفة وجاذبة تعمق من مفاهيم الانتماء والاعتزاز خاصة للأجيال الصاعدة. وهناك الكثير الذي يمكن ان تكون ام درمان كمدينة مدخلا له كنافذة للمبدعين السودانيين على مر الأجيال بوصفها أهم مسارح التطور الاجتماعي والإبداعي في السودان بناسها وأحداثها، وهي ثمثل مادة لا تنضب للمبدعين في مجال التوثيق والإنتاج كمدينة من مدن الروايات القديمة بوقائعها ورموزها وكنوزها . وأم درمان عندي كالبسملة لا يبدأ الحديث إلا بها وهي كالشرافة لا ينتهي اللوح إلا بزخرفها . مدينة كقنينة العطر وبوتقة الانصهار جمعت فأوعت، رسمت ملامح أمة وجسدت بطاقة وطن وتغنت بأعذب الألحان لسير وأحداث وذكريات وقيم هي سر أبنائها وبناتها المتوسدين سطح أقمارها المضيئة. وأم درمان بكل ما احتوت من مبدعين في الأدب والفن والسياسة والرياضة والعلم والإعلام تمثل بحرا واسعا للناشطين في مجال الإعلام والبحاثة من المبدعين ومحبي التراث وهي المدينة الأكثر تأهيلا لتقديم هذا العطاء ، بل تنطبق عليها مواصفات المدن القديمة بما جمعت وأوعت فضلا عن كونها تشكل عند أبنائها مكمن عشق قديم يروي حكاياتهم وذكرياتهم . فالمدينة هي التي تسكن في دواخلنا بعد أن نكون قد سكنا في تفاصيلها وأسرارها وشعابها وفي كل مدينة تكبر بعض الزوايا والمنحيات والأمكنة من حارات وحواري وأزقة وتقبع في ذاكراتنا بما يشبه الإدمان المكاني وبما ينتج ما يمكن تسميته بإلفه الأمكنة . شكلت المدينة حضورا تفصيليا في الرواية العربية وفي الروايات العالمية على اختلافها فقلما توجد رواية بلا مدينة تتحرك في داخلها الشخصيات وبلا أمكنة تتوالد فيها الأسرار والحكايات. ولكل مدينة سطحها وقاعها «القاع « الذي يعبر عن واقع المستضعفين في المجتمع اثر المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تطرأ في فترات زمنية معينة مثلما ان السطح يعج بنجوم المجتمع وطبقاته البرجوازية الأخرى. وقد جسد كثير من الروائيين في أعمالهم هذه المتغيرات متخذين من المدينة وعاء دراميا للسير والحكايات، وفي هذا الإطار نجحت أعمال روائية مهمة في تجسيد هذه الصور الاجتماعية في مدينة ما أو مكان ما . ومن هذه الأعمال على سبيل المثال لا الحصر رواية الأديب السوداني الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال والتي جعلت من العاصمة البريطانية لندن مسرحا لأهم أحداثها، واختارت من شخصياته أبطالا لأحداث الرواية في صراعهم الدرامي حول الإشكالية التي طرحتها . وحول أهمية المدينة في تفاصيل حياة الناس كتبت العديد من القصص والأحداث ، كتب الروائي المصري يوسف القعيد « أطلال النهر « ثم كتب صنع الله إبراهيم « تلك الرائحة « وفي أحدث رواية عن المكان والناس كتب علاء الأسواني « عمارة يعقوبيان « وجميعها روايات تبدو أقرب إلى القصص الإخباري تصور المتغيرات التي تجتاح المجتمعات وتتخذ من المدينة والحارة والعمارة مسرحا لأحداثها. وتتفاوت المدن في حراكها بقدر ما تختزنه من متناقضات وما تحركه من أحداث ففي أميركا على سبيل المثال لا الحصر جسدت روايات « بول أوستر « وريتشارد فورد « ما يمكن تسميته بواقعية القاع في الرواية الأميركية وأطلت المدن الأميركية وقيعانها وأمكنتها من بين تفاصيل هذه الأعمال كمواضع مهمة طبعت تلك الروايات بلونها وطعمها ورائحتها الخاصة . فرواية بول أوستر» ثلاثية نيويورك « حملت في متنها مهمة تشخيص الواقع الأميركي في رسالة مفادها تدمير « الحلم الأميركي « الجميل الذي تصدره أميركا للعالم وذلك من خلال تناولها لواقع التهميش الإنساني في المجتمع الأميركي والمشاكل النفسية التي تطال أفراد المجتمع بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تحاصرهم في شوارع المدن وقيعانها المظلمة، وسار ريتشارد فورد على نفس الطريق وهو يجسد وقائع المدينة القاسية من خلال روايته « حياة وحشية .» سلط فورد الأضواء على قاع المدينة وما يحمله من حكايات العمال والمزارعين والمتسكعين وغيرهم من الأفراد المنسيين في هوامش المدن . وتتشابه الصور الدرامية وتتعدد الحكايات والسير وتختلف من واقع إلى آخر ولكن تبقى المدينة ويبقى المكان هو المسرح الذي يكمل الصور بالشخصيات برونقه وإيقاعه الخاص . ومابين الحكايات والروايات والسير والتقارير الإخبارية والتوثيق لحياة الناس والأحداث مجرد خيوط رفيعة وتصنيفات فنية ومهنية . ولعل ما يؤكد هذا التشابه ميلاد الرواية الأميركية الشهيرة التي تحولت إلى فيلم ومسلسل تيلفزيوني جذب إليه الملايين وهي رواية الكاتبة الأميركية «كانديس باشنيل « Sex and the city «،تقول الكاتبة عن هذه الرواية إنها كانت مجرد مشاهدات ومتابعات لإيقاع الحياة والعلاقات العاطفية والجنسية في مجتمع مدينة نيويورك في عمود يومي بصحيفة نيويورك تايمز قبل ان يتم تجميعها وصياغتها في شكل عمل روائي متكامل حول ثقافة العلاقات العاطفية والجنسية بين الرجال والنساء في مجتمع مدينة نيويورك . ومثلما أن للقاهرة أو نيويورك أو واشنطن حكاياتها كمدن، فلمدينة أم درمان حكاياتها ولونها الخاص وإن كانت أكثر حياءً وتجملا وتواضعا فهي ليست كالقاهرة بضجيجها وحكاياتها التي تضيق بها المقاهي والشوارع والبنايات ، وليست كنيويورك بمجونها وسفورها وتبرجها وقسوتها على الغرباء، لكنها تحمل سماتها الخاصة وتعبر عن ملامحها بما احتضنت من مبدعين وشعراء وأدباء وساسة، ولعل أبو صلاح واحد من أبنائها الذين رسموا بكلماتهم السهلة الممتنعة لوحة جمالها وتألقها كلمة ولحنا خالدا ما خلد النيل. نهمس في أذن قناة النيل الأزرق بمد إرسالها إلى الولاياتالمتحدة شاكرين. * واشنطن