يختلف محمد أحمد محجوب عن معاوية محمد نور في أن بواكيره النقدية التي نهتم بدرسها في هذه المحاضرة لم تصل إلى مستوى النضج الذي نجده في بواكير معاوية النقديّة، ولعلّ هذا هو السبب في أنه لم يعتن بضمها إلى كتابه «نحو الغد» إذ قصره على مقالاته بمجلتي «النهضة» و«الفجر». وبالمثل فقد لاحظنا انه اهمل كثيراً من بواكير شعره التي نشرت ب «حضارة السودان»، فلم يضمنها ديوانه الاول في طبعتيه: الأولى التي صدرت عام 1961م بعنوان «قصة قلب» والثانية المزيدة التي صدرت عام 1964م بعنوان «قلب وتجارب»، ولا في ديوانه اللاحق «مسبحتي ودني» الصادر في أخريات عُمره «1972». ومهما يكن الأمر فإن هذه البواكير تمثل المرحلة الاولى من اسهام المحجوب في مجال الأدب والنقد، وهي بلا شك جديرة بالعناية والدرس، على ما سيتضح لنا في هذا التناول. هذا، وقد ولد المحجوب ونشأ بمدينة الدويم عام 1908م، وحظي بتعليم نظامي الى ان تخرج في قسم الهندسة بكلية غردون عام 1929م، والتحق من ثمّ بمصلحة الاشغال، وعمل اول امره مهندساً بمدينة الخرطوم. ومعلوم انه درس فيما بعد بمدرسة الحقوق وتخرج فيها قاضياً عام 1938م، ثم تقلبت حياته فيما بعد في مجالي المحاماة والعمل الوطني، مما لا يهمنا أن نفصل القول فيه في هذه المحاضرة. فإذا انتقلنا إلى جانب التكوين الأدبي، فسنجد ان لخاله محمد عبد الحليم يداً كبرى في هذا الجانب، إذ انه وصله بأحاديثه وعن طريق مكتبته الخاصة بأصول الأدب العربي والثقافة الاسلامية، ومهد له سبيل النهل من أدب المحدثين من أدباء مصر ونقادها من قبيل العقاد والمازني وهيكل وطه حسين، سواءً بقراءة كتبهم أو بالتهام فصولهم ومقالاتهم التي كانت تترى في دوريات مصر في تلك الحقبة، وقد أعانه تمكنه من اللغة الانجليزية على تكملة تكوينه الأدبي بالاطلاع على قدر صالح من الأدب الانجليزي أو الغربي على وجه العموم. ومن جانب آخر فقد اسهم المحجوب في وقت مبكر من عمره في جمعية الهاشماب أو الموردة التي جمعت شباباً من ذوي المواهب الخلافة وتفوقت ادبياً على جمعية أبي روف، فأتاح له ذلك مزيداً من التربية الادبية، وأعانه على إخصاب شاعريته وملكته في النقد. وقد وجد المحجوب مجاله على صفحات «الحضارة» منذ عهد دراسته بالكلية، فنشر فيها عدداً من القصائد والمقالات الناقدة، وبعض المواضيع الاجتماعية كمسلسلته عن المرأة السودانية، ويظهر انه كان على اتصال مباشر برئيس تحريرها «حسين شريف»، والمرجح لدينا أنه أخذ عنه، وتأثر به خاصة في ما يتعلق بالاتجاه القومي في الأدب، وقد اشاد به في بعض ما كتب، ونوَّه بفضله على النهضة الادبية في السودان الحديث. واتجه المحجوب إلى الشعر والكتابة النقدية، وكما قلنا من قبل فإن بواكيره في النقد لم تأتِ بمستوى النضج الذي نلحظه في نتاجه النقدي اللاحق، ذلك أن رؤيته النقدية لم تنضج تماماً في هذه المرحلة، فجنح إلى كثير من التطرف والمغالاة، وناقض نفسه في بعض الأحيان، أما النزعة المثالية التعميمية التي يتسم بها نتاجه النقدي بعامة، فهي أشد ظهوراً في تراثه النقدي لهذه الحقبة. وبرغم أن المحجوب بدا من المتطرفين في الدعوة الى التجديد الادبي، فإنه لم يستنكف من الاشتراك في بعض الممارسات التقليدية التي حمل عليها حمزة الملك طنبل بصدق وحق، فنراه يسهم في مسابقة التشطير على صفحات «الحضارة»، ويفوز بجائزتها الثانية على تشطيره لأبيات أبي فراس الحمداني التي أجريت المسابقة عليها: أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه «ويبغي أحاديث الكرام له ذكرا» «بعيدٌ عن السوأي وينبذ أهلها» كأن به عن كل فاحشة وقرا سليم دواعي الصدر لا باسطاً أذى «لموطنه يوماً ولا قاصداً ضرا» «ولا هاتكاً ستراً ولا فاشياً سرا» ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هجرا إذا ما أتت من صاحب لك زلة «تحلُّ عقال الود أو تقصم الظهرا «وكان مثال الطُهر والصدق والوفا» فكن أنت محتالاً لزلته عذرا وقد مال المحجوب بعض الشيء إلى نظم المقطوعات القصيرة، واتجه إلى الجانب الوصفي كما نرى في قصيدته «حديقة الحيوان، وإلى التعبير عن التجارب العاطفية مما يتسم به نتاجه الشعري في عمومه، ومن ذلك مقطوعته «تأبين الجمال» التي أوضح في مقدمتها أنها حصيلة تجربة معاشه: هاك حزني وشقوتي وعهودي يا منيل الأنام ورد الخدود قيمة الورد في رباه ولكن يذبل الحسن بعد قطف الورود ما عشقت الجمال إلاّ لأني قد عهدت الجمال صنو الخلود إن حب الجمال يغمر قلبي إن كساه العفاف ثوب الصمود وقد اتجه شيئاً ما - كغيره من الرامين إلى التجديد - إلى التخفف من القافية الموحدة، ولكن الروح النثري ظلت مع ذلك غالبة على شعره، كما نرى في قصيدته المهداة إلى صديقه حمدي «ذكرى عهد: على شاطئ النيل في الدويم»: يا بلبلاً في الروض جدّد عهده وأقام بين الحسن يقطف ورده وتلا أهازيج السلام فردّه ماضٍ تصرَّم لا يزال جميلا -- هل أنت ذاكره قديم زماننا ومصوراً في الشعر زهر رياضنا ومغرّداً بالفذّ من أيامنا تحيى النفوس وتكرّه التدجيلا ...الخ فإذا انتقلنا إلى الجانب النقدي من بواكيره فسنراه ينصب على نقد الأدب السوداني على نحو تعميمي فيه كثير من التطرف والمغالاة، وقد دعا كغيره من نقاد الجيل الثاني - أعني معاوية محمد نور ومحمد عشري الصديق - إلى ربط الأدب بالحياة، وإلي القومية السودانية متأثراً في ذلك بالدعوة التي رفع لواءها في السودان حسين شريف، وناظراً من جهة أخرى إلى صنيع الدكتور محمد حسين هيكل في الأدب المصري. وسنعني في هذه المحاضرة بالنظر في تصوره للأدب بعامة، وفي نقد للأدب السوداني مقروناً بما تواتر عليه من ردود، كما سنلتفت من جهة أخرى الى موقفه من الدعوة إلى القومية. 1- يستند تصور المحجوب للأدب في عمومه على ايمان بدور الأدب في الحياة الانسانية بوصفه تصويراً ونقداً وتوجيهاً لمناحيها المختلفة، وقد عني في مقالته «نحن والحياة الادبية» بتقديم تعريف صادر عن اتجاهه هذا، ودال عليه، فهو يشير إلى أن الأدب الصادق كما يقول «هو الذي يوقف المرء على حقائق الاشياء، ويطلعه على صور الحياة المتنوعة، ويحكي له كل شيء في مرآة عكسية نراه فيها ظاهراً بأدق وأتم معانيه، فبالأدب تكتمل الحياة». ويضيف مركزاً على الادب في المجال القومي «إن الادب هو روح القومية وقوامها المتين، وهو أكبر رابطة بين افراد الشعب، وخير ملتقى لعواطفهم وميولهم، فهو يجمع بين الفنان والعالم، والصانع والتاجر، وجميع أفراد الطبقات، ويكون منهم كتلة واحدة مشتملة تجمعها كلمة الفن، وتقودها روح الأدب وقوانينه، ولذا كانت الحركات الأدبية أهم ما يمكن الحكم على رُقي الامة أو تأخرها، وكلما زاد عدد الأدباء بالمعنى الصحيح، الذين لا يجرون وراء أدب والتسلية واللهو بل المنفعة، كانت الأمة أثبت قدماً في الحضارة»، فهو كما ترى يربط بين الأدب بمعناه الصحيح والفاعلية النافعة على عكس المنادين بالفن للفن، ومن هنا جاء تبخيسه للأدب اللاهي العابث بغض النظر عن متعته الفنية أو معطاه الجمالي. ونجده يأخذ في مقالة أخرى مقولة ماثيو أرنولد المعروفة، فيذهب إلى أن «الأدب كما يقول احد الكتاب الانجليز «نقد الحياة»، فإذا كانت الحياة حافلة بالمسائل التي تلفت نظر الأدباء وتستوجب اهتمامهم نبغ بعض الادباء وأظهروا مواهبهم واستخدموا عقولهم». وهذا مما يشارك فيه المحجوب غيره من نقاد الجيل الثاني كما ألمحنا قبل قليل. ومعلوم أن المحجوب استطاع في المرحلة التالية للحركة النقدية السودانية أن يبلور هذه المفاهيم على نحو أكثر نضوجاً وأصالة، كما نرى في مقاليه «الأدب والحياة» و«أدب التجارب» على سبيل المثال. 2- فإذا نظرنا في انتقادات المحجوب وآرائه في الادب السوداني في هذه المرحلة، فسنجدها صادرة عن رغبة حارة في تجديد هذا الأدب، ولكنها رغبة لم تؤسس على نظر موضوعي بعيد على النصفة في الحكم أو تصدر عن تصور أصيل للنهج الذي يمكن أن يتجدد الأدب السوداني من خلاله، ومن هنا نرى الناقد يطلق احكاماً تعميمية يجرد فيها الادب سواء أكان شعراً أم نثراً من كل قيمة، بل أنه يندفع متأثراً في أغلب الظن بما كتبه ميخائيل نعيمة عن العروض، فيسخر من الخليل وأوزانه، ويتطرف فيتمنى زوالها بعد ان جردها من كل مزية، على أن ثورته المندفعة المتعجلة لم تمض ريحها رخاء كما هو متوقع، اذ تصدى له بعض الادباء السودانيين بردود وافية بحيث لم يجد الناقد من رد عليها سواء الصمت، ثم لم يلبث أن آب إلى شمة من الرؤية والاتزان في نظراته العقدية اللاحقة. أ/ يفتتح المحجوب نقده المطول للأدب السوداني بإنكار وجود ما يصح أن يُسمى أدباً في السودان، فليس هناك في ما يقول «من أدب يمكن ان يطلق عليه هذا الاسم، ولكننا نسميه مكرهين إذ لا مفر من ذلك، ولا بد ان يظهر هذا الاسم يوماً ما ويتحقق معناه» على أنه لا يستبعد «أن تكون في السودان في القريب نهضة متينة الأساس، وذلك لما نراه من جهود بعض الإخوان الذين قد أخذوا على عاتقهم ان يدأبوا لايجاد ادب قومي يسد هذا الفراغ في حياتنا.. ومعظمهم شبان في ضحوة العمر وأمامهم طرق التقدم كثيرة ومواد الاطلاع وافرة». ب/ ثم يأخذ في تفصيل مبررات حكمه التعميمي السالف بادئاً بالشعر، فيقول إن الأدب السوداني بدأ شأن الآداب العربية الاخرى بالشعر «فظهر قليل من الشعراء عالجوا النظم ولا نقول الشعر، اذ ان موضوعاتهم التي يتكلمون فيها ليس لها مساس بحياتنا ولا لها علاقة بالشعور والعواطف السامية، وليسمح لي شعراؤنا الامجاد ان اقول لهم في غير خداع ولا مراعاة خاطر، ان كل ما أخرج من شعرهم ما هو إلا تكلف وسخف يقرأه المرء فيخرج بلا طائل، اللهم إلا ما يصيبه من الحمى ويصادفه من الآلام التي تنتابه إبان تلك القراءة التي يقطع فيها زمنه، راجياً ومتمنياً أن يفوز ولو ببعض الشيء، ولكنه في آخر الأمر يكتفي بأن يرسل زفرة عالية في السماء وتعقبها تأوهات وتنهدات ونواح على الشعر الضائع الذي لم يجد له بين هذه الخلائق نصيراً ينتشله من هذه الهوة ويحلّق به في سماء المعنى والشعور، ويجعله أداة لتصوير ما هو ساكن في الضمائر، وابراز ما تكنه النفوس المهذبة الراقية، أجل وفي آخر الأمر ينتهي القارئ المسكين بأن يسأل الله في سر وفي علن أن يرفع من قدر شعرائنا، ويغير وجهة نظرهم فيجعلهم يرون الشعر أسمى من أن يتخذ آلة للمدح والهجاء وأمثاله من هذه الامور التافهة التي لا تسمن ولا تغنى من جوع، ويرون انه هبة سماوية ينزلها الله على أناس قلوبهم رقيقة تتأثر وتتألم لأقل شيء يلامسها، فتتحرك قيثارتها وترسل انغاماً شجية يحرك بها العقل اللسان فيمليها على القلم فيخطها على القرطاس شعوراً مترجماً طبق الاصل لا تحريف ولا تشويه فيه». والتطرف والمغالاة في ما ساقه الناقد مما لا يحتاج إلى بيان، ومع ذلك فيمكننا القول - بغض النظر عن هذه الجوانب السالبة - إن نقده يستند أساساً على رفض التقليد والتكلف، والتأكيد على ضرورة الصدق في التصوير والتعبير على النحو الذي قرره دعاة التجديد الذين سبقوه في هذا المضمار.