يبدو أن البنك المركزي قد فقد سيطرته على الدولار فقد بدأ منذ فترة في طرح العديد من الاجراءات التي ربما تساعد على كبح جماحه! ومع ذلك ظل الدولار يرتفع في السوق الموازي حتى وصل الى 8.2 جنيه (جنيهان وثمانون قرشا) للدولار تقريبا. بدأت هذه الاجراءات بتحجيم تحركات الدولار وذلك بتحديد مبلغ خمسة ألف دولار للمسافرين ثم توجيه البنوك بأن يتم فتح الاعتمادات من حسابات العملاء وليس من موارد البنك. واخيرا اعلن البنك المركزي عن اجراء تعديلات جذرية في السياسات النقدية خلال النصف الثاني من هذا العام.. وقال محافظ البنك المركزي ان السبب هو انحسار الازمة المالية العالمية وتأثيرها على الاقتصاد السوداني التي دعت الى اتخاذ سياسات توسعية خلال العامين الماضيين بضخ مبالغ مقدرة للمصارف وخفض الاحتياطي النقدي مما أثر على معدل التضخم وسعر الصرف خلال الاشهر الماضية، ليصف السياسات الجديدة بأنها تقشفية وليست انكماشية؟!. انني حتى الآن لست متأكدا تماما من ان ما نقل عن لسان المحافظ صحيح.. لانه لو كان كذلك فاننا على ابواب تخبط في السياسات النقدية لا يمكن ايقافه!! لان حديث السيد المحافظ مليء بالتناقض!! كيف يلجأ البنك المركزي الى السياسات التقشفية بعد ان انحسرت آثار الازمة المالية؟! من المفترض ان يكون العكس صحيحا.. وهو أن البنك المركزي كان من المفترض ان يتبع سياسات تقشفية خلال الازمة وهو ما حدث في بقية انحاء العالم.. ولكن البنك المركزي فعل العكس إذ أطلق سراح الدولار لكل من يريد أن يقترف منه.. فغادرت البلاد عشرات الملايين من الدولارات دون حسيب او رقيب لشتى الأغراض.. تحت سمع وبصر البنك المركزي وقد فعل ذلك لاعتقاده ان ما يملكه من ارصدة لا تتعدى المليار دولار كفيل بان يحدث استقرارا في سوق الدولار.. وتخلص البنك المركزي تماما من الرقابة الأمنية ولم يعد يأبه لعشرات من المتعاملين في السوق الأسود الذين يقبعون أمام البنوك والصرافات. وظل هؤلاء ينتظرون الايام الطوال كأنما هم مدركون بان الامر مسألة وقت!! وبذلك اثبتوا ان حسهم الدولاري يفوق حس البنك المركزي اذ سرعان ما تغير الحال وانخفضت العملات الصعبة نتيجة لانخفاض عائدات البترول بشكل درامي.. واكتشف البنك المركزي اخيراً ان سياساته التوسعية لا مكان لها في السياسات النقدية ولابد من الرجوع الى السياسات التقشفية.. ولكن بثمن باهظ! يريد البنك ان يسحب ودائعه من المصارف وهو يدرك مدى التأثير السلبي لذلك القرار.. ويريد ان يرفع الاحتياطي النقدي للمصارف بالعملتين الى 11% بدلا من 8% (أحد عشر في المائة بدلا من ثمانية في المائة). وهذا القرار سيزيد من عدم قدرة البنوك على ممارسة دورها في التمويل إذا اضفنا الى ذلك بما يفرضه البنك المركزي من احتياطيات على البنوك ارتفعت بسقف تلك الاحتياطيات الى أعلى حدود لها.. وبالتالي سيؤدي ذلك الى انخفاض السيولة.. ونحن نتساءل هل يعمل البنك المركزي كجزيرة معزولة؟! أين دور وزارة المالية في كل ما يتخذه البنك المركزي من اجراءات؟ ام هي خيال مآتة؟! المعروف اقتصادياً ان السياسات المالية والنقدية جهد مشترك لوزارة المالية والبنك المركزي.. ولابد ان يتم ذلك في تنسيق تام.. كما ان السياسات النقدية هي الاداة الرئيسية التي تستعملها وزارة المالية في تنفيذ السياسات الاقتصادية الكلية، وبدونها تصبح تلك السياسات عرجاء ولا فائدة منها.. لقد قامت وزارة المالية قبل فترة قصيرة بسداد التزامات مالية كبيرة على القطاع الخاص لتحريك النشاط الاقتصادي.. والآن يتراجع بنك السودان عن ذلك باتباع سياسات تقشفية لا شك انها ستؤثر على قدرة المستثمرين في سداد التزاماتهم واللجوء الى أساليب نسيها الناس من زمن.. وبنك السودان باجراءاته الامنية يريد ان يرجعنا الى المربع الاول.. لماذا يفعل ذلك وهو قد اوصلنا الى هذا الحال بسياساته التي تفتقد الى الأسس العلمية والعقلانية!! لقد اراد بنك السودان أو لم يرد بصحوته هذه ان يهد ثوابت وان يجعل المستثمرين يعيدون حساباتهم في ظل انغلاق قادم لا يعرف أحد مداه!!..