اورد الكاتب العبقرى الراحل معاوية محمد نور الذى رحل عام 1941م وهو فى ريعان الشباب «32 سنة»، اورد تجربة شخصية خاصة به، وذلك فى اطار تعليقه على السياسة التعليمية فى السودان زمن الاستعمار الانجليزى، حيث ذكر معاوية انه وبعد أن تخرَّج فى جامعة بيروت وهو من القلائل الذين اُتيحت لهم فرصة الدراسة العليا خارج السودان، فقد كان راغبا فى العمل استاذا في كلية غردون قمة التعليم فى السودان، فتقدم باوراقه لذلك، فاستدعاه مدير المعارف وكانت المقابلة حوارا فى الثقافة والادب والاجتماع، انتهت برفض طلب معاوبة محمد نور للعمل محاضراً فى كلية غردون، وعلم فيما بعد أن مدير المعارف كتب تعليقا على ذاك الحوار الى من يهمه الأمر (NOT THE TYPE TOO CLEVER) علق معاوية ساخرا على هذا التصرف قائلا: «متى كانت الثقافة عيباً لا يقبل من أجلها الانسان مدرسا فى مدارس بلده». قرأت هذه التجربة واستدعيت تجارب كثيرة عايشتها ومررت بها، تتلخص كلها حول عداء أهل السلطة لاهل الفكر والرأي إلا ما ندر، فالصراع الفكري قضية تخصص فيها العلامة الراحل مالك بن نبي، وكتب فيها عدداً من المقالات، وأصدر كتابين الاول بعنوان «مشكلة الأفكار فى العالم العربى» والآخر «الصراع الفكري فى البلاد المستعمرة» وقضية الوعي والدراية ظلت كذلك تشكل قضية مركزية فى فكر الشهيد د. علي شريعتي من خلال رسائله «النباهة والاستحمار، بناء الذات الثورية، هكذا كان أبي»، وغيرها من الرسائل التي تركز حول ضرورة تزكية الوعي والدراية بمصائر الأمة والتفكير بعيد المدى، وهو ما يعبر عنه القرآن بمفهوم الشهادة، حسب ما جاء في افتتاحه الجزء الثاني من القرآن «وكذاك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً». والآية تلخيص بليغ لضرورة الإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع والقضايا المصيرية التي تواجهه، لكن الوعي والإحساس بالمسؤولية دائماً ما يجر المتاعب على أصحاب الأفكار والمبادئ، فبعض الحكام يرون في المستنيرين فكرياً خطراً على عروشهم السياسة الاستعمارية التي تحاصر نمو الوعي وتستبعد الاذكياء، وهى ما نحب أن نطلق عليها مصطلح د، علي شريعتى «الاستحمار» ولا نزال نجد لها مثالا فى بعض سياسات زمننا المعاصر. وتلفون كوكو أبو جلحة أحد أبناء جنوب كردفان، ومن مؤسسي الجيش الشعبي قطاع جبال النوبة، وهو صاحب رأي واضح وصريح في ما يتعلق بعلاقة جبال النوبة بالحركة الشعبية، فهذه العلاقة كانت دائماً مثار جدل وسببا للحرج لقيادات الصف الاول لابناء النوبة في الحركة الشعبية. ودخل أبناء النوبة الحركة الشعبية وفق قرار اتخذه مفوضهم وقتذاك المرحوم يوسف كوة رئيس تنظيم كمولو الذي قابل قرنق عام 1984م واتفق معه على دخول النوبة الحركة الشعبية، لكن أبناء النوبة بدأوا يشعرون لاحقاً بأنهم يحتاجون لمسافة حرة بينهم والحركة الشعبية وزعيمها ذي الشخصية المهيمنة جون قرنق. وعندما انشق رياك مشار عن قرنق عام 92م ايده من قيادات النوبة عوض الكريم كوكو ويونس ابو صدر، فدفعوا ثمن ذلك حياتهم، حيث تم اعتقالهم وترحيلهم الى الجنوب وتصفيتهم لاحقا، أما تلفون كوكو ابو جلحة فقد حاول مبكراً أن يكون على رأي مستقل، وطالب أن يستجيب أبناء النوبة لمبادرة الحكومة ويدخلوا معها فى حوار. وطرح ذلك فى اجتماعات المجلس الاستشارى للحركة الشعبية قطاع جبال النوبة الذى عُقد فى سبتمبر 1992م لكن آراءه تلك وضعته تحت المراقبة ثم عرضته للاعتقال بواسطة يوسف كوة، واُرسل الى الجنوب ليبقى تحت الاعتقال عشر سنوات 1992-2002م. واطلق سراح تلفون، لكن لم يكلف بأية مهام فى حكومة الحركة بعد السلام، فلم يكن تلفون على ود مع قيادة الحركة فى الجبال «عبد العزيز» أو قيادة الحركة فى الجنوب «سلفا كير» وبدأ يُعبر عن آرائه الناقدة للحركة فى الصحف العامة، خاصة جريدة «الوطن» و «رأى الشعب»، ونشرت له جريدة «الوطن» تصريحاً قال فيه «إن جبال النوبة ليست محافظة تتبع للجنوب». وانتقد الحركة الشعبية بشدة، وقال إنها لم تلعب دوراً فى تقديم التنمية للجبال. وانتقد ما ذكر انه ظلم لابناء النوبة فى الحركة، حيث لم يتم تعيين نوباوى واحد فى وظائف الخارجية «42 وظيفة»، ولا الوظائف الاخرى التى حصلت عليها الحركة بموجب اتفاق يخصص لها 20% من الوظائف العامة. ولكن القضية الحساسة هى وضعية أبناء جبال النوبة فى الجيش الشعبى، فما هو مصيرهم بعد الاستفتاء. وتناول تلفون هذه القضية فى الصحف السيارة، فسببت توترا جديدا بينه وقيادة الحركة، لكن حوارا تم بين تلفون وبعض القيادات الامنية للحركة الشعبية بالجنوب أفلح فى نزع فتيل التوتر. لكن تلفون عاد ليناقش قضية أبناء جبال النوبة فى الجيش الشعبى وحقوقهم فى الهواء الطلق، مما أثار غضبا مكتوما لدى قيادة الحركة، فتم استدعاء تلفون بدعوة شفوية لمقابلة سلفا كير فى الجنوب، واصطحب معه عدداً من قيادات النوبة الذين يحملون نفس رؤاه، لكن تلفون لم يقابل سفا كير إلا بعد انتظار طويل جدا، حيث تم تكليفه ببعض المهام، وكان سيحضر إلى جنوب كردفان بوصفه مبعوثاً من رئيس حكومة الحنوب. وعدم الثقة بين تلفون والحركة وقطاع الجنوب أمر قديم، ففى عام 1992م أيام أزمة قطع خطوط الامداد بين الحركة الشعبية قطاع جبال النوبة والرئاسة، كتب تلفون خطابا شديد اللهجة ينتقد فيه اداء قيادة الحركة الشعبية، مما دعا يوسف كوة لوضعه تحت المراقبة، ثم الاعتقال لاحقا. وقال يوسف ان تلفون لا يمكن ان يكتب مثل هذا الخطاب الا اذا كان هنالك من يدفعه. ووضعية ابناء النوبة فى الحركة الشعبية ومصير المنطقة بعد الاستفتاء، وهل يتم فك الارتباط بالجنوب.. كلها قضايا شائكة تشغل بال قيادات النوبة، لكن تلفون اختار ان يناقشها بصوت مسموع، مما أزعج القيادة في الجنوب عكس عبد العزيز الذى يتحدث عن هذه القضية بتحفظ شديد، فعندما سُئل عن ذلك من قبل صحيفة «الشرق الاوسط» قال إنها وضعية يتوجب معالجتها فى وقتها، وهذا يعكس عقلية مراوغة لعبد العزيز، لكن تلفون جاهر بهذه وهو ما لم ترضه قيادة الحركة، وعلى ما اعتقد قيادة الحركة كتبت فى ملف تلفون نفس ما كتبه مدير المعارف حول معاوية محمد نور (NOT THE TYPE TOO CLEVER) وأبناء النوبة فى الحركة الشعبية لم يكونوا يتصورون انهم مجرد دروع بشرية، ولم يتصوروا ان الحركة التى ينتمون اليها حركة انفصالية، فهم جزء من الشمال ولا بد من مراعاة وضعيتهم، فجنوب كردفان اطول الولايات حدودا مع الجنوب، وأكثرها تداخلاً ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، وهي ذات موارد طبيعية وبشرية هائلة، فلا بد من مناقشة وضعيتها بعد الاستفتاء منذ الآن، والولاية دون شك مع الوحدة، لكن إذا حدث غير ذلك فإنها ستكون أكثر الولايات تضرراً. ومن حق تلفون كوكو إثارة ذلك بكل صراحة، وليس من المنطق تكميم فمه وايداعه الحبس بسبب آرائه، فنحن مع حرية تلفون ونناشد الجهات المختصة اطلاق سراحه. ويكفي تلفون أنه أُبعد من تولي أي منصب في حكومة جنوب كردفان أو الجنوب بعد السلام، رغم أنه من المؤسسين للحركة الشعبية قطاع جبال النوبة.