انما يولد الانسان المعاصر من رحم التاريخ، وحياة الانسان التي في قلب الزمان وذاكرته، ذلك ان التاريخ جاء ليعرف بالانسان وتجربته على الارض، وهو بهذا المعنى ليس قاصراً على انه من البشر أو أحداث من الحياة فكل بني آدم يمثلون التاريخ الانساني، ومما يؤكد هذه الحقيقة ان القرآن وهو يحدثنا عن الانسان ويقص علينا تاريخه لم يكتفِ بالعهود المثالية لتاريخ الايمان، بل اردف ذلك بتاريخ الكفر والعناد، ليرسم لنا بذلك صورة الانسان في جميع اطواره واحواله يصفه وهو راسخ الايمان واليقين، ويبين حاله وهو في كفره وعتوه، ذلك ان سنن الله في المجتمعات البشرية لاتتفاعل إلا بوجود الانسان في كل صورة يمكن أن يكون عليها ليتشكل بذلك مشهد الحياة الانسانية في كل مراحله وادواره وبكل اعماقه وابعاده. الحضارة الانسانية هي الجانب المشرق من التاريخ الانساني، والحضارة بمعناها الكبير ليست حكراً لأحد بل هي حق مشاع لكل البشر في أن ينتموا إليها ويسهموا فيها. تتوارثها الأمم والشعوب بحسب الجدارة لتضع بصمتها عليها، وذلك عبر المنافس التاريخي لحمل لوائها. فمنذ ان بدأت الحياة الانسانية بالأبوين وركب الحضارةيسير، بيد ان الانتماء للحضارة والاسهام فيها يبغيه اتصال عميق الجذور بذلك الانسان الكبير الذي ولد مع مولد الحضارة البشرية على ظهر الارض، ثم أخذ ينمو عقلاً ووجدانا وفكرا وكيانا عبر رحلة عمره المديدة في الحياة. وتفرقت شخصيته مع تفرق الناس لشعوب وقبائل، وان ملامح هذه الشخصية لا تتضح قسماتها للناظر إليها والراجي لوصالها إلا من خلال التعارف بين الشعوب والقبائل على جسور التواصل التي تجتمع عليها عبر المنظومة الاجتماعية للحياة البشرية، والتي ليست سوى الشعب والقبيلة، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). من هنا تبرز قيمة الشعب والقبيلة في العملية الحضارية. وان ميزان التفاضل الحضاري بينهم في القاعدة الاجتماعية الكبرى التي يلتقون عليها والتي تجدد للنفس قبيلتها الروحية ومقامها في مواطنها الأصلي تقوى الله سبحانه. ان الأمم والسلالة البشرية التي انقطعت عن التواصل الانساني أو التي لم تتصل لتنقطع ستظل حبيسة نفسها في بدائية وتوحش وعداء، منفية عن الحياة ومنبوذة من الحضارة، ذلك انها لم تساير حركة التطور البشري أو تواكب ركب الحضارة الانسانية، وليست هذه الأمم التي انقطعت أو لم تتصل غير الشعوب الهمجية الذي هم للوحش أقرب منهم للانسان، لم يكن لهم اتصال بالحياة إلا لتدميرها أو الفتك بالانسان هذا ان اتصلت، ومن أمثال هذه الشعوب قوم ياجوج وماجوج وأمة التتار والمغول، والقبائل البربرية وأمة يهود فكان منها ما حبس كقوم ياجوج وماجوج ومنها ما ردع كالتتار والمغول ومنها ما طرد من الحياة والانسان إثر التحول النكد عن الطبيعة البشرية جراء ما ارتكبوا من الجرائم بحق الله وبحق أنفسهم وبحق الانسانية التي نفوا منها، ومن الأمم التي لم تتصل سكان الأطراف، وبعض القبائل المتفرقة في أصقاع الأرض في كل من استراليا وامريكا اللاتينية وافريقيا. لقد اتضح ان الحضارة ملك لكل البشر وان للجميع حق الانتماء إليها والاسهام فيها. ثم تبين كيفية الاتصال بها أو الانقطاع عنها: بقى ان نعرف طرفا من ماهيتها وحقيقة معناها لكن كانت الحضارة الانسانية في الارض فإن لواءها معقود في السماء... وان كان مكانها ظهر هذا الكوكب فإن سلطانها يمتد امتداد هذا الكون الفسيح، يمضي بها الانسان وهي تسير به، ذلك انها مجموع النشاط البشري الذي يراعي الجوانب المختلفة في الكائن البشري وهذا ما تكتسب به الحضارة معناها كحضارة انسانية. ان هذا الدور المنوط بالحضارة ان تؤديه عجزت عنه الحضارة الأرضية وقدرت عليه الحضارة الاسلامية حينما نجحت فيما اخفق فيه الآخرون، واستطاعت ان تكفل لهذا الانسان وهو يعيش تحت سلطانها وجودا يكون فيه بكل مقومات كيانه البشري دون ان يتخلف عنه فيها مقوم واحد، وهذا الذي اكسبها طابع العالمية على غير حضارات الطين كعاد وثمود وفارس والروم التي لم يكن لها ما تقدمه للانسان، فافرغت وسعها لرفاهية شعوبها وتلبية رغباتها على حساب الانسانية كلها، في حين ان الحضارة الاسلامية جاءت لتعلن ان مجال عملها الإنسان في الارض كلها إلا ان الحضارات الطينية ناصبتها العداء بمختلف أنواعه، فحاولت الفرس ان تشوه الفكر الاسلامي وقامت بباديتها من الديلم على تقويض اركان الدولة العباسية وتلاعبت بالخلفاء العباسيين، والترك الذين اجتاحت باديتهم من التتار الدولة العباسية لم يكن سلاطينها من بني عثمان بأقل فتكاً منها من التتار لانهم كانوا عسكراً بدوياً، أبعد ما يكونون عن روح الحضارة ومعناها، وان حافظوا على شكل الدولة الاسلامية مدة خمسة قرون. أما الروم الذين جاءوا بالوطنية التي شكلت عليها خارطة العالم الجغرافية والفكرية في هذا العصر كردة فعل لفقدانهم روح المكان ومعنى الاستقرار، فباديتهم من الأرمن لا يزالون متشردين تشرداً روحياً قبل ان يكون مكانيا، ذلك ان نفوسهم لا تتقبل وجود موطن يسكنون فيه، لهذا كانت حروب الروم ضد الاسلام حروبا عسكرية لما تتقاضاه طبيعة وجودهم ولأنهم لا يملكون غيرها. ان الغرب وهو يعمل على تشريد الشعوب وينهب خيراتها وتجويعها انما يعبر عن مدى حقده على الانسانية، التي يعتبرها العدو الذي عزله عن الحياة، ويعبر كذلك عن أنانيته وجشعه ونظرته الآحادية التي لا تتعدى نفسه المريضة، وانه ليعلم يقينا انه لا يصلح أن يكون انساناً فضلاً ان يقود الانسانية، ويدرك كذلك ان دفة الحضارة ينبغي ان تكون بيد الاسلام إلا ان قلة عقله وسفهه يأبيان الانصياع لهذه الحقيقة. ان الاسلام العظيم الذي استطاع ان يجمع سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي في ميلاد جديد، قادر ان يبعث أمة الانسان بعد مواتها بعثا تبدأ به الحضارة الانسانية دورة جديدة من حياتها تجمع فيها اشتات البشرية بمختلف أجناسها المنبتين منهم والذين لم يتصلوا كما فعلت من قبل حين جمعت البشرية في أعظم حضارة عرفتها الإنسانية.