من التعسف أن نحجر على أخواننا في الجنوب، قول نعم للانفصال: لا للوحدة : طالما كفلت لهم اتفاقية نيفاشا ، حق تقرير مصيرهم بأيديهم ،لكن من المهم أيضا أن لا نحملهم حملا على ممارسة هذا الخيار، ولا ينبغي أبدا أن نحرضهم عليه ،ونستخدم في ذلك كل إمكانيات حكومة الجنوب التنفيذية والتشريعية والإعلامية لتحقيق ذلك الهدف ،لان الاتفاقية قالت: بوضوح لا لبس فيه ،ان على الطرفين الترويج لخيار الوحدة الجاذبة ،لكن عبارة (الوحدة الجاذبة) أعيت من يداويها، واختلف الناس في تفسيرها وذهبوا مذاهب شتى ، حتى شبهها البعض بمصطلح مكافحة ومحاربة الإرهاب الذي بدأت الولاياتالمتحدة تروج له بشدة، في أعقاب أحداث سبتمبر 2001 ، حيث ملأت قضية ما يسمى ب ( الإرهاب ) الدنيا، وشغلت الناس، وأصبحت قاسما مشتركاً لكل الشعوب ، وعلى اختلاف الحضارات، ولكن وإن نطق الجميع بالكلمة فإنهم مختلفون في تحديد معناها، فلا تكاد تعريفات (الإرهاب) تقع تحت الحصر، وكلٌّ مقرّ بنسبية المصطلح، وعدم تحديده وعدم الاتفاق على معناه بشكل دقيق ، مما جعل ذلك بعض القوى الكبرى تستغله أبشع استغلال ،خاصة أمريكا، حيث تمكنت من دفع الجميع للمشاركة في حروبها على ما تسميه الإرهاب ، وأزهقت أرواح ملايين من الأبرياء في العراق وأفغانستان وغيرها من البلدان ، ولا تزال في إطار تلك الحرب وتبعتها دولٌ كثيرة في مجاراتها، منها إسرائيل التي قتلت عشرات الآلاف في فلسطين وماتزال ، ولذلك لا يجمع الناس حتى الآن على تعريف محدد لمعنى كلمة إرهاب،فأمريكا والغرب على سبيل المثال تحسب ان معظم حركات المقاومة في العالم إرهابية ودونكم حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين وحزب الله في لبنان ،.وكان من المفترض أن يقوم شريكا الحكم في السودان (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) بتحديد دقيق لعبارة الوحدة الجاذبة وتحديد على من تقع مطلوباتها ، ووضع أدوات للقياس حول مدى النجاح والفشل ، على أي طرف تقع وبأية نسبة وقدر ، المؤتمر الوطني يقول ان الجنوب يحكم نفسه بنفسه بنسبة 100% ويشارك بنسة 30% في حكم الشمال ،وأنه يتسلم حصته كاملا من عائدات البترول الذي ينتج معظمه في مناطق جنوبية ،وانه وافق على منح حقيبة النفط للجنوبيين ، كي يتأكدوا بأنفسهم حجم الانتاج وكيف يتم تسويقه ،لكن الحركة الشعبية تقول إن كل ذلك ليس مبررا على دعم المؤتمر الوطني لخيار الوحدة الجاذبة ،وترى أنه كان على المؤتمر الوطني إنشاء طرق وجسور وسدود ومقار حكومية وخدمية ودعم الزراعة وانشاء بنيات للصناعة ، والترويج للسياحة ، ومد السكك الحديدية وغيرها من الضروريات في الولاياتالجنوبية من الموازنة العامة للدولة ، وترك حصة الجنوب من عائدات النفط لتسيير دولاب الحكومة هناك ،وكان من المفترض على الطرفين تبيان ايجابيات الوحدة وسلبيات الانفصال ، لمواطني الجنوب ،لكن شيئا من ذلك لم يحدث خلال سنوات تنفيذ الاتفاقية الا على استحياء ،من المؤتمر الوطني بينما أبانت الحركة الشعبية نوايا الانفصال منذ أن وطأت أقدام قادتها أرض مطار الخرطوم ، تولى كبر هذه المهمة السيد باقان أموم الامين العام للحركة الشعبية ،وأطلقها مدوية في كل محفل ومنبر في الداخل والخارج وقال: دونما مواربة إن أبناء الجنوب سوف يختارون خيار الانفصال بنسبة أكثر من 99% ،(كأنه مركز استراتيجي للرصد والاستطلاع ) وفيما كنا نحسب الرجل ذو النزعة اليسارية، وصاحب العلاقات الجيدة مع دوائر صنع القرار الأمريكي ،بأنه متشدد في دعوته ومتنطع وانفصالي ،كان السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب السيد سلفاكير ميارديت يعلنها داوية أيضا من داخل إحدى كاتدرائيات جوبا ،بأن الانفصال هو الخيار الأمثل لمواطنيه ، إن أرادوا أن يعيشوا باقي أعمارهم مواطنين من الدرجة الأولى ؟!وطوال سنين الشراكة كان هناك شد وجذب بين الشريكين، وتهديد ووعيد وكر وفر في ميادين التشاكس المختلفة، خلق انطباعا لدى الجميع بأن مركب الشراكة لا محالة يبحر باتجاه الانفصال ،لدرجة أنهما عجزا عن حل قضية أبيي فحملاها الى محاكم دولية ،واليوم يريدون وضعها تحت عهدة المنظمة الدولية ،توطئة لضمها لدويلة الجنوب التي نعتقد بأنها إن قامت ستكون دويلة فاشلة وسط أفريقيا ،كونها منطقة لا منافذ لها على العالم ،قد يقول قائل إن أمريكا والغرب سوف يفتحون لها منافذ مهما كلفهم الأمر من أموال ،وربما وجد بعض قادة الحركة الشعبية مؤشرات ايجابية في هذا الصدد ،لكن لا أمريكا ولا الغرب الذي يعاني من تبعات الأزمة الاقتصادية الخانقة ،سوف يعملان على بناء دولة الجنوب(طوبة طوبة ومدماك مدماك )قد يساعدان بإقامة بني تحية من شاكلة المباني والطرق وشبكات الاتصالات ،لكن مقومات الدولة الحديثة ليست مبانٍ وطرق واتصالات وإن كانت مهمة . دويلة الجنوب إن قامت باستفتاء حر ونزيه وأشك في حدوثه ،ذلك ان تجربة الانتخابات العامة السابقة ، أكدت للجميع أن الحركة الشعبية حركة اقصائية وغير ديمقراطية ،طابعها غابي ، بدليل أن بيتها الداخلي لم يسع قادة كان لهم صوتهم داخل منابر الحركة القيادية من أمثال د/ لام أكول والفريق اتور ،لم تمكنهما الحركة وغيرهم من خوض الانتخابات ،مما جعلهما في نظر الحركة بأنهم مجرد مرتزقة، ينفذون اجندات المؤتمر الوطني،الرامية لتفتيت البيت الجنوبي قبل تقرير مصير مواطنيه العام المقبل ،صحيح ان دولا عديدة سوف تؤيد الحكومة الجديدة حال إعلانها سواء تم ذلك من خلال الاستفتاء أو حتى من طرف واحد من داخل برلمان الجنوب ،لكن الصحيح أيضا أن المؤتمر الوطني لن يقبل بقيام دولة تنشطر عنه في الجنوب ،مما سيقود الشمال والجنوب الى حرب جديدة، ستكون أكثر ضراوة من سابقتها ، كما صرح أكثر من مسئول من الجانبين ،ذلك ان الجنوب وظف معظم نصيبه من عائدات النفط لشراء اسلحة ثقيلة وطائرات حربية وصواريخ ودبابات كما درب عددا كبيرا من الشباب في أمريكا والغرب لخوض تلك الحرب اللعينة ، التي لم نصدق اننا التقطنا أنفاسنا لبعض الوقت من سابقتها ،لكن ما هو تعريف الدولة الفاشلة وهل سينطبق على دويلة الجنوب حال قيامها تعريف الدولة الفاشلة؟ وهل سوف يتأثر السودان الشمالي بها ؟وهل يكون فشلها فرصة للوحدة التي لم تتحقق بعد ان يجرب إخواننا في الجنوب ويذوقوا ثمرات الانفصال ؟كلها أسئلة مشروعة ومن حقنا كمشفقين على مآلات الأوضاع في بلادنا ان نحذر منها. يعرف البعض الدولة «الفاشلة»، بأنها الدولة التي لا يمكنها السيطرة على أراضيها، وعادة ما تلجأ للقوة، وتفشل حكومتها في اتخاذ قرارات مؤثرة، بالإضافة إلى عدم قدرتها على توفير الخدمات لأبناء شعبها، فضلاً عن فشلها في التعامل بفاعلية مع المجتمع الدولي، وعادة ما تشهد معدلات فساد وجريمة مرتفعة. ويعرِّف مركز أبحاث الأزمات في كلية لندن للدراسات الاقتصادية الدولة الفاشلة بأنها: «حالة انهيار الدولة، أو الدولة العاجزة عن أداء وظائف التنمية الأساسية وحماية أمنها وفرض سيطرتها على أراضيها وحدودها» كما تعد مجلة FOREIGN POLICY الأمريكية مؤشراً سنوياً، باسم دليل الدول الفاشلة على أساس 12 عاملاً، ومن هذه العوامل وجود دولة داخل دولة، وبروز نخب تسمح بتدخل دول أخرى بالتأثير المباشر على سياسات هذه الدولة وقراراتها.. إلى آخره- (حسب عبد الملك آل الشيخ- الكاتب السعودي في الشرق الأوسط ). - كما تطرق العديد من المفكرين والساسة الغربيين في أدبياتهم وتحليلاتهم السياسية، إلى مصطلح «الدولة الفاشلة»، ومدى خطورتها على الأمن العالمي، وجهود مكافحة الإرهاب.ومن المحتمل ان يحدث الانفصال في جنوب السودان بطريقة ناعمة ومخملية وهذا احتمال ضعيف للغاية،سيما لو علمنا ان من ينبري من الشريكين لفتح ملفات ما بعد الانفصال (د/ نافع علي نافع وباقان اموم )وهما من صقور الجديان الجارجة ،مما يدل ان الحوار حول تلك القضايا موضع النقاش ربما تصل الى طريق مسدود ، ومن المؤكد أن أولى مؤشرات فشل الدولة الجنوبية سوف تأتي من تمكينها للأمريكان من كل مفاصل دولتهم الوليدة،ومن المؤكد أن أبيي سوف تكون بمثابة برميل بارود ، قابل للانفجار في أية لحظة، وستكون انابيب البترول، وعقوده ومناطق إنتاجه،معاول للقطيعة والاحتراب، ستكون العملة والديون ومياه النيل، والأصول المشتركة والوجود الجنوبي في الشمال والشمالي في الجنوب ،والحدود وجنوب كردفان والنيل الأزرق ، والجنسية كلها أدوات لقنبلة نووية قد تنفجر في أي وقت، إن ضغط هذا الطرف او ذاك على أذررها ،وربما يعاني الشمال والجنوب من شبح المجاعات، وقد يقود فشل دولة الجنوب حال قيامها، الى فشل للدولة الشمالية أيضا ،وتبعا لكل ذلك سوف يتفتت النسيج الاجتماعي ،وقد يتعامل أبناء السودان في الجنوب والشمال مع بعضهم البعض بكثير من الحساسية، فموت واحد من هنا أو هناك في ظل الانفصال، سيعني وضع المزيد من الزيت على النيران، التي سوف تشتعل لتحرق الأخضر واليابس ، وقد يتوقف انتاج النفط، وقد تضطر الشركات التي تنتجه الى الرحيل ،وقد يؤثر ذلك على تدفق الاستثمارات في شطري البلد ،وقد يقول قائل إن أمريكا والغرب سوف تحميان بقوة الحديد والنار مكاسب الدولة الوليدة ، وقد يقف بعض العرب الى جانب دولة الشمال ،لكن لا أحد يستطيع توفير الحماية للطرفين طويلا ، ما لم يرتضيا العيش بسلام جنبا الى جنب مع بعضهما ،أما ان أراد كل طرف دعم المتمردين في الطرف الآخر، فالنار سوف تحرق الجميع، وقد جرب السودان هذه السياسة مع الجارة تشاد،فلما رأى الطرفان ما أحدثته تلك السياسات من خراب ،عادا الى جادة الصواب ،واتفقا على احترام كل منهما الآخر؟ وعدم التدخل في شئونه الداخلية ؟ فهل يتعظ شريكا الحكم في السودان من كل تلك التجارب؟ ويعملان على تجنيب الشعب السوداني في الجنوب والشمال ويلات حرب هو في غنىً عنها ؟وهل من عقلاء في الطرفين ينسجون منذ الآن على خيوط شعرة معاوية التي يجب أن تمتد بين الجانبين من أجل سودان واحد موحد ولو بعد برهة من الوقت؟ يضع الكل عقولهم في بيوتهم ؟نأمل أولا أن لا تنشب أية حرب ولو كان ضحيتها أرنب بري واحد ،أو طائر يسبح الله هنا أو هناك ،وإن اندلعت فنسأل الله أن يوقفها بأسرع مما نتصور ، ولكي لا يحدث ذلك الذي نكرهه جميعا، ليت قادة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية يؤمنون ولو ليوم واحد أن نصف رأيهم الحكيم قد يكون عند أخوانهم الآخرين في الوطن، وأقصد بهم قادة الاحزاب المعارضة (حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي والشيوعي والشعبي وغيرها ) والى رموزنا الوطنية المهمومة بوحدة البلد، والتي لها رؤاها وتصوراتها لما وصلنا إليه من حال ،وليت الحكومة توسع صدرها أكثر، من أجل محاورة حملة السلاح في دارفور مهما تنطعوا وتشددوا، ليس حبا في سواد عيونهم ،إنما نزولا الى صوت الضمير ونداء الملايين من السودانيين الذين لم يجنوا من الاحتراب والتشاكس، بكل صنوفه ومسمياته سوى البؤس . وعلى كل ومهما يكن من أمر، فإننا نتطلع الى أن يجري الاستفتاء في موعده دون ان نغضب من اختيار أخواننا في الجنوب، فإن صوتوا لصالح دولة موحدة حتى لو قامت على أسس جديدة فالحمد لله أو كان خيارهم (فرز عيشتهم) فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، فلندعهم يجربوا العيش في دولتهم، وبالطريقة التي تروق لهم ، ولنمد إليهم يد العون، ولا نبادرهم بالعداء ونكون حربا عليهم ، ولنصبر على أذاهم بعض الشئ ،عسى ذلك يجعلهم يشعرون بأنهم إخواننا حقا مهما حاول البعض وضع حدود استعمارية مصطنعة بيننا،وليكن التنقل بين الدولتين بسهولة ويسر (بدون تأشيرة) وليكن الجنوب مكانا للعمالة من الشمال،وليحافظ الشمال على فرص العيش الكريم لمن يريدون البقاء من الجنوبيين مع مواطنيه ،ونتوجه في الختام ، برجاء صادق لكافة قادة الحركة الشعبية، بأن يكفوا عن تحريض مواطنيهم لتغليب خيار الانفصال على الوحدة ،وليؤثروا الصمت إن كانوا حقا غير راغبين في الوحدة . يقول إيليا أبو ماضي: أيها الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا إن شر الجناة في الأرض نفس تتوخى قبل الرحيل الرحيلا وترى الشوك في الورد وتعمى أن ترى فوقها الندى إكليلا والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلا * كاتب وصحافي سوداني مقيم في قطر