بترتيب من الإدارة الأميركية زار واشنطن الأمين العام للحركة الشعبية لجنوب السودان باقان أموم على رأس وفد رسمي من الحركة لمخاطبة الكونغرس الأميركي بشأن الاستفتاء المقرر لأهل الجنوب في يناير المقبل لتقرير المصير. ويمكن القول إن الهدف من الزيارة هو تهيئة الأذهان لانفصال الجنوب توطئة لمولد دولة مستقلة كاملة السيادة لذلك الجزء من السودان. وأول تساؤل يخطر على البال هو: لماذا هذا الاهتمام الأميركي بفصل الجنوب؟ خيار الانفصال منصوص عليه بالطبع في اتفاقية نيفاشا للسلام بصورة ضمنية من حيث تمكين شعب الجنوب من ممارسة حق تقرير المصير. ولكن لماذا قررت الولاياتالمتحدة أن تتبنى هذا الخيار كسياسة معتمدة فيما يبدو دون خيار الوحدة المنصوص عليه أيضاً في الاتفاقية؟لقد نصت اتفاقية السلام كذلك على فترة انتقالية لمدى خمس سنوات تبدأ من يناير 2005م يكون خلالها الحكم المركزي شراكة بين حزب المؤتمر الوطني الشمالي والحركة الشعبية على أن تنفرد الحركة بالسلطة في الجنوب في إطار نظام حكم ذاتي محلي.وعلى مدى معظم المساحة الزمنية لهذه الفترة كان محور السياسة الأميركية هو تشجيع استمرار الوحدة بين الجنوب والشمال حتى بعد نهاية المرحلة الانتقالية. وكان تعليل هذه السياسة هو أن من شأن مشاركة الحركة الشعبية في الحكم المركزي أن تكبح جماح التوجه الإسلامي الراديكالي الذي يمثله حزب المؤتمر الوطني الشريك.لكن على صعيد التطبيق العملي ثبت أن هذا التقدير الأميركي خاطئ فقد أدت غلبة حزب المؤتمر على جهاز الدولة إلى جعل التوجه الراديكالي الاستقلالي للسلطة المركزية أقوى في الساحتين الإقليمية والدولية بحيث إن قيادة الحركة الشعبية صارت مجرد تابع.هذا ما يفسر لنا ما طرأ مؤخرا من تغيير كامل في السياسة الأميركية تجاه مصير ومستقبل جنوب السودان بأنه يهدف إلى تفكيك الوحدة بين الجنوب والشمال لتنشأ دولة جنوبية مستقلة.والسؤال التالي إذن هو هل لدى الولاياتالمتحدة الآن أجندة معينة تجاه الدولة الجنوبية المرتقب مولدها؟ ويتفرع من هذا السؤال بل ويسبقه ما يلي: هل لدى جنوب السودان أصلا المقومات الأساسية اللازمة لقيام دولة مستقلة ومتماسكة وبالتالي كيان مستقر يمكن الولاياتالمتحدة من تنفيذ أجندتها أيا تكن طبيعة هذه الأجندة؟الرؤية الأميركية الأساسية لجنوب السودان تنبع من كونه كياناً إثنياً إفريقياً غير عربي وغير مسلم بالمقارنة مع الشمال العربي المسلم. وبناء على هذه الرؤية الأساسية فإن دولة الجنوبالجديدة بهويتها الإفريقية المسيحية تمثل في نظر واشنطن قاعدة نموذجية لمحاربة الإرهاب في منطقة شرق إفريقيا.وبالامتداد المنطقي ستكون الدولة الجديدة قاعدة لمنظمات التبشير المسيحي يشمل نشاطها خططا لعمليات التنصير في أوساط الأقليات الإسلامية في بلدان إفريقيا الشرقية وخاصة كينيا ويوغندا وتنزانيا. وبالطبع ستكون على رأس أجندة هذه الأنشطة محاربة انتشار الإسلام داخل الجنوب السوداني نفسه.إجمالا يمكن القول إن ما يراد للدولة الجديدة هو إدراجها ضمن الاستراتيجية الأميركية تجاه القارة الإفريقية، حيث تلتقي أهداف هذه الاستراتيجية مع التوجهات الاستراتيجية الإسرائيلية. وفي هذا السياق علينا أن ننتبه إلى أن المدخل الإسرائيلي إلى دولة جنوب السودان هو التدخل في معادلة قسمة مياه النيل بين دول الحوض بما يلحق ضررا جسيما بمصر والسودان. فالدولة الجنوبيةالجديدة ستكون فور إعلانها العضو الإضافي الجديد في مجموعة دول المنبع التي بدأت منذ الآن في إثارة مسألة إعادة النظر في توزيع الأنصبة المائية بتحريض إسرائيلي مدعوم أميركيا في ما يبدو. ويجدر بالذكر هنا أن صحيفة خليجية أوردت أن أمانة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في مصر تلقت مذكرة سرية من أحد أعضاء الأمانة تكشف عن خطة إسرائيلية لتوصيل مياه النيل إلى إسرائيل مقابل التزام إسرائيلي بتمويل مشروع قناة جونغلي في جنوب السودان.. ذلك المشروع الذي يؤدي إلى زيادة موارد روافد النيل عن طريق تقليص كمية التبخر.صفوة القول إن قيام دولة مستقلة في جنوب السودان صار تقريبا حقيقة واقعة حيث إن الاستفتاء المقرر إجراؤه في يناير 2011 سيكون تحصيل حاصل.. وثانيا إن الولاياتالمتحدة تعد العدة للتعامل مع الدولة الجديدة كدولة تابعة للنفوذ الأميركي لكن هذا يعود بنا إلى السؤال السابق هل تملك الدولة الجديدة من مقومات الاستقلال الكياني ما يجعل منها دولة مستقرة قابلة للبقاء؟علينا أولا أن نعيد إلى الأذهان أن جنوب السودان ليس نسيجا إثنيا موحدا فهو يتكون من عشرات من القبائل المتصارعة التي لا يربط بينها حتى رباط لغوي. هناك اثنتا عشرة مجموعة لغوية قبلية ليست بينها لغة تواصل وطنية. لذا فإن الولاءات السياسية مبنية على الانتماءات القبلية.الآن وعلى مدى شهور ظلت تدور حرب أهلية متصاعدة تتقاتل من خلالها قبيلة الدينكا التي تنتمي إليها الحركة الشعبية الحاكمة مع القبائل الرئيسية الأخرى المحرومة من قسمة السلطة الجنوبية. ومع افتراض وجود عسكري أميركي في الدولة الجنوبيةالجديدة سيوفر دعما للقبيلة الحاكمة فإن من المؤكد أن جنوب السودان أصبح الآن موعودا بأن يكون أفغانستان آخربإعترف مسؤول بارز في الحركة الشعبية التي تقود أعمال التمرد في جنوب السودان. أن الولاياتالمتحدة تدعم انفصال الجنوب وتضخ أموالا كبيرة لتحقيق ذلك.وقال ممثل الحركة في الولاياتالمتحدة «إزيكيل لول جاتكوث» لصحيفة واشنطن تايمز الأمريكية بتاريخ 25/12/2009: إن واشنطن تكثف جهودها لمساعدة الجنوب على الاستقلال عن الشمال.وأوضح «جاتكوث» أن واشنطن تقدم دعما ماليا سنويا يقدر بمليار دولار للجنوب السوداني مضيفا أن المبالغ تصرف في إنشاء البنية التحتية وتدريب رجال الأمن وتشكيل جيش قادر على حماية المنطقة.وأضاف: «إن من بين أهداف حكومة الولاياتالمتحدة هو التأكيد على أن يصبح جنوب السودان في عام 2011 دولة قادرة على الاستمرار».ومن هنا يأتي السؤال ما هي أسباب دعم الولاياتالمتحدة لانفصال الجنوب السوداني رغم ما قد يشكله ذلك من خطورة بالغة على هذه المنطقة من الناحية الاستراتيجية وفتح المجال مجددا أمام نشوء عدة دول فاشلة على غرار دولة الصومال وغيرها. تنطلق الإجابة على هذا السؤال من التذكير بأهمية موقع السودان الاستراتيجي فالسودان يعد أكبر دولة عربية من حيث المساحة وتكمن أهميتها الإستراتيجية ليس في مساحتها فقط ولكن في كونها همزة وصل وجسر ناقل للثقافة والحضارة العربية والديانة الإسلامية للعمق الأفريقي الذي تسود فيه الوثنية. فالسودان بحدوده المترامية الأطراف يلامس عدة دول عربية وإسلامية مصر, ليبيا كما يجاور عدة دول أفريقية إثيوبيا, كينيا, أوغندا, زائير, جمهورية أفريقيا الوسطى, تشاد.ويتضح من هذا الجوار المتنوع أن جمهورية السودان تشكل منطقة التماس بين الشمال الأفريقي العربي المسلم وأفريقيا جنوب الصحراء التي ما زالت تبحث عن هوية مميزة حضاريا ودينيا. وهي منطقة تكتسب أهميتها الإستراتيجية من جانبين:الأول: كونها تمثل المعبر الأساسي الذي يدخل منه الإسلام إلى بقية مناطق القارة في الوسط والجنوب.الثاني: كونها أكثر المناطق التي تضم تشكيلة متنوعة من القبائل العربية والأفريقية.ومن هنا جرى التركيز على السودان في إطار مخطط أمريكي لقطع التواصل داخل القارة الأفريقية بين شمالها العربي المسلم وجنوبها الباحث عن هوية واعتبارها نقطة البدء وقاعدة الانطلاق لتنفيذ الإستراتيجية الأمريكية.وتركزت تلك الإستراتيجية في بعدها المعاصر على استكمال مخطط فصل الجنوب عن الشمال وتكوين دولة مسيحية في الجنوب تصد أي توجه عربي أو إسلامي يحاول الولوج إلى عمق القارة الأفريقية انطلاقا من السودان.وقد ظهرت هذه الرغبة الأمريكية جليا في الاقتراح الذي قدمه المبعوث الرئاسي الأمريكي إلى السودان «أندرو ناتسيوس» بإقامة منطقة عازلة بين الجانبين الشمال والجنوب في مساحة 40 كيلومترا بواقع 20 كيلومترا داخل حدود الشمال ومثلها داخل حدود الجنوب تكون منزوعة السلاح ويشرف عليها خبراء غربيون ودعوتها للإسراع بترسيم الحدود بين الجانبين. هذا المخطط الأمريكي يرمى إلى تحقيق جملة من الأهداف في مقدمتها الأهداف الحضارية والدينية إضافة إلى أهداف سياسية واقتصادية أخرى. الأهداف الحضارية:على رأس الأهداف التي تسعى إليها الولاياتالمتحدة في إطار دعمها لانفصال جنوب السودان قطع الطريق أمام الحضارة العربية والإسلامية لتجد لها موطئا مستقرا في العمق الأفريقي وتصفية ما تبقى من هذا الوجود في أفريقيا جنوب الصحراء.فالرغبة السادية لإثبات تفوق الجنس الغربي وحضارته والتي عبر عنها فرانسيس فوكاياما في كتابه «نهاية التاريخ وخاتم البشر», شكلت الدافع والحافز لدى الولاياتالمتحدة لمحاولة كبح التمدد العربي الإسلامي المنافس والعدو اللدود له وحصاره جغرافيا في أطراف القارة الشمالية وحضاريا عن التواصل مع الجنوب الأفريقي والقضاء على ذلك الوجود في منطقة جنوب الصحراء في حملة تطهير عرقي لهذا الجنس العربي في العمق الأفريقي.ولذلك أدخلت الولاياتالمتحدة العرب في صراع عرقي بينهم وبين الأفارقة هدفه حصار هذا الوجود العربي في شريط ساحلي ضيق وراحت تصنع من ورائه حاجزا وسدا منيعا بين حضارة عربية شمال القارة وحضارة أفريقية مغرقة في التبعية تسير في ركب الغرب تريدها أن تسود القارة من ناحية أخرى.ونقطة البدء كما أسلفنا كانت عند التماس العربي الأفريقي الممثل في السودان وصنع حاجز أفريقي بشري ضخم ممثلا في دولة الجنوب الأفريقية المسيحية وهذه الرغبة الأمريكية في تقسيم السودان لخدمة مخططاتها وأهدافها الحضارية القائمة على أسس عرقية لعزل العرب المسلمين في الشمال عن بقية أجزاء القارة أكدتها دراسة للباحث السوداني عبد الهادي الصديق عن «السودان والإفريقانية».فالباحث أكد في دراسته أن أغلبية الدول الأفريقية حصلت على استقلالها في الستينيات من القرن العشرين ونشأت إبان ذلك حركة أطلق عليها الأفريقانية «حركة الجامعة الإفريقية», ومنها انبثقت حركة «الزنجية» التي تعمق الفارق بين كل ما هو شمالي عربي مسلم وجنوبي إفريقي مسيحي.وأطلت فكرة «الزنجية» بقوة في المؤتمر السابع الذي انعقد في كمبالا في أغسطس 1994م. وقد تم تنظيم المؤتمر من قبل مجموعة «التحالف من أجل أفريقيا» الذى أعد بإدارة مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق للشؤون الأفريقية هيرمان كوهين ما عرف ب»وثيقة كمبالا».وتركز جدول أعمال المؤتمر على العناصر الكفيلة بتجزئة وتقسيم القارة انطلاقا من فكرة «الزنجية» في إطار التكريس للمفهوم الاستعماري لتجزئة أفريقيا إلى أفريقيا السوداء جنوب الصحراء وأفريقيا العربية شمال الصحراء هذا إضافة للأهداف الدينية فإنه وبرغم المظهر العلماني الذي تبديه الولاياتالمتحدة في مواجهة العالم ودعوتها الدءوبة لفصل الدين عن مجريات الحياة لاسيما في شقها السياسي إلا أننا نجد أن الدين ما زال القوة الأساسية المحركة لسياسات الغرب والولاياتالمتحدة خاصة تلك التي يواجه بها العالم العربي والإسلامي فمحاربة الوجود الإسلامي وجعل القارة الأفريقية الجنوبية بحيرة مسيحية تنفر من الوجود العربي والإسلامي بقدر انجذابها إلى العالم الغربي المسيحي كان وما زال على رأس الأهداف التي تصبو الولاياتالمتحدة لتحقيقها من وراء مخططها المشار إليه ولتحقيق هذا الهدف كان لابد من إفساح المجال لتنصير القارة بعدما شكل الإسلام الذي ينطلق من العمق السوداني العائق الأساسي أمام نشاطات التنصير رغم الإمكانيات الهائلة المتوافرة لتلك النشاطات فالمصادر التنصيرية تذكر صراحة أن التبشير الإسلامي ظل يتقدم جنوبا بشكل مطرد منذ القرن السادس ومن ثم فقد واجهة تنصير القارة صعوبة بالغة في كافة أرجاء المنطقة الوسطي والجنوبية في إفريقيا بسبب هذا الغزو العربي والإسلامي وانجذاب الأفارقة له. ولذلك مثلت إشكالية الوجود العربي والإسلامي في أفريقيا حضورا لافتا على غالب أجندات وفاعليات مؤتمرات التنصير المختلفة قديما وحديثا.وإذا كانت هذه هي الأهداف الرئيسة لدعم الولاياتالمتحدة وسعيها لانفصال جنوب السودان عن شماله فإن أهدافا أخرى فرعية اقتصادية وسياسية تأتي لتؤكد تنوع الأهداف الأمريكية المبتغاة من فصل الجنوب السوداني عن شماله فجنوب السودان يحتفظ بأكبر احتياطيات غير مستغلة من النفط في إفريقيا والولاياتالمتحدة تهدف إلى إحكام السيطرة على تلك الموارد الهائلة دون منازع عربي وإسلامي إذ يكفيها المشاكسة القوية من جانب التنين الصيني الذي غرس هو الآخر مخالبه بقوة.ولاشك أن دعم الولاياتالمتحدةللجنوبيين الآن سيجعل لها اليد العليا مستقبلا على هذه الموارد الضخمة. نظراً لكل ذلك لابد من البحث عن خيارات مقبولة للطرفين شماليين وجنوبيين لإبعاد خطر الانفصال وليعلم الجميع أن العدو واحد وأهدافه فوق كل الرؤى الشمالية والجنوبية .