أدب الاستقالة... كلمات ظل كتابنا يمضغونها ويجترونها ثم يلفظونها على الورق على عشم أن يكرسوا لهذا المفهوم. ويصاب القراء أحياناً بعدوى هذا العشم فيتسقطون الأخبار ولكنهم يفجعون بأنه لا توجد استقالة.. ولا يوجد أدب ، فالاستقالة أندر من لبن الطير في الحياة السياسية المعاصرة. أي معتوه هذا الذي يركل المرتب الضخم والمخصصات والعربات الفارهة وبريق الشهرة وتسابق الناس على مصافحته ومداهنته من أجل أن ينصب نفسه قديساً في محراب أدب الاستقالة ؟ أي خبل ننتظره منهم ونحن نحثهم على شراء التراب بالتبر وعلى استبدال الحرير الذي يرفلون فيه بخشن الثياب؟ الكاتب الاسلامى المستنير الدكتور خالد محمد خالد كتب ذات يوم وهو يوثق لواحدة من تلك الاستقالات المضيئة ..كتب يقول : ( في بدايات عهد الدولة الأموية والتي كانت أول من كرس الملك العضود في تاريخ الإسلام، طاب الملك للخليفة معاوية بن أبي سفيان. لم يقنع الخليفة معاوية بما طاب له تاركاً للمسلمين من بعده اختيار من يرفع الراية ويجلى عنها رهق الرغام. وهكذا قرر معاوية أن يضع الملك بين يدي ولده (يزيد) فأخذ له البيعة بالسيف والقهر.. وبعد حين يموت معاوية ويخلفه يزيد. كان يسمى (يزيد القرود) وكان آخر من يصلح، بل أول من لا يصلح ليجلس في الأمة المسلمة حيث جلس من قبل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم. أيكون (يزيد القرود) خليفة في جيل لا يزال يحيا فيه رجال شامخون أمثال الحسين وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وقيس بن عباده وغيرهم من أصحاب رسول الله؟ لقد كان ضمن بنود الصلح الذي عقده الحسن بن علي مع معاوية أن يكون الأمر من بعده للمسلمين يختارون من يرضون دينه وأمانته وعدله ولكن معاوية خالف الميثاق وبالسيف أخذ البيعة ليزيد . أصبح يزيد خليفة بعد وفاة والده وتلهى عن أمر الإسلام والمسلمين بفهوده وقروده، وجعل له في كل ولاية من الأمصار والياً أعمى البصيرة قاسي الفؤاد. ثم يموت يزيد ويخلفه إبنه معاوية الثاني بن يزيد في خلافة لم تلبث سوى بضعة أشهر. هذا الخليفة الشاب قدم لنا أروع استقالة شهد له بها تاريخ الإسلام. جمع المسلمين في مؤتمر مشهود ووقف فيهم يقول: (أيها الناس: إن جدي معاوية نازع الأمر أهله، ومن هو أحق منه لقرابته من الرسول (ص) وسابقته في الإسلام وهو علي إبن أبي طالب. ولقد ركب بكم ما تعلمون حتى أتته منيته، فصار في قبره رهين أعماله. ثم تقلد أبي (يزيد) الأمر من بعده، فكان غير أهل له. ثم صار في قبره رهين ذنبه واسير جرمه. وإن من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء منقلبه وقد قتل سبط رسول الله، وأباح الحرم وخرب الكعبة... وما أنا بالمتقلد أمركم، ولا بالمتحمل تبعاتكم، فأختاروا لأنفسكم. والله لئن كانت الدنيا خيراً، فقد نلنا منها حظاً ولئن كانت شراً فكفى ذرية أبى سفيان ما أصابوا.. ألا فليصلِ بالناس حسان بن مالك، وشاوروا في خلافتكم. يرحمكم الله). بهذه الكلمات المفعمة بالورع والحق غادر الخليفة معاوية بن يزيد منبره إلى داره، وظل معتكفاً بها حتى لقى ربه راضياً مرضياً. )