عند مدخل الشيرتون بأديس أبابا، عازف الساكسفون يؤدي معزوفة راقصة لعروسين تحت رذاذ المطر. لم أعرف إن كانت تلك بداية المراسم أم نهايتها، وفي بهو الفندق عازف البيانو يعزف مقطوعة عازة في هواك، على أروع ما يكون العزف وعلى أجمل ما يكون الاستماع!! وأنفاس رجال الأمن والسفارات تملأ المكان يصعب إيجاد مقعد للجلوس المؤقت..! رجال المفاوضات كل في حيزه المكاني، في الطابق الأول توجد قاعتان، قاعة لوفد حكومة الخرطوم والأخرى لوفد جوبا، الحدود مرسمة تماماً بحواجز نفسية، تخترقك النظرات إذا تجاوزت خطاك المكان المحدد! كل شخص تجلس إليه تجد لديه رؤية وتوقعات تناقض من كنت جليسه قبل قليل! جئنا إلى أديس من الخرطوم في رفقة الرئيس عمر البشير والأخبار تبشر باختراق كبير وأحاديث عن موافقة الوفد الحكومي على خارطة أمبيكي ولكن - بتوضيحاتها - ووفق إجراءات متعددة، دون تحية للصادق المهدي!! بعد ساعة من الوصول جاء خبر حدوث انتكاسة في التفاوض! في المطار قدم وزير الدفاع الفريق أول عبدالرحيم ورقة للرئيس البشير، نظر إليها الأخير ثم سحب بصره بهدوء صارم! وعاطف كير ناطق الوفد الجنوبي يكمل سجارته على مقعد في الممر ومع آخر نفس يقول للصحافيين: (إما اتفاق شامل أو لا اتفاق)..! ودكتور كمال عبيد ممسك بمسبحته وبياض لحيته غدا أكثر لمعاناً، وهو على ذات موقفه: (لا تفاوض مع قطاع الشمال إلا بعد فك الارتباط)..! وعرمان يتجاذب أطراف الحديث مع عدد من الأوربيين وفي مرات تجده مع دينق ألور وآخرين من دولة الجنوب، كان في النهار على غير عادته أقل انشراحاً مع الإعلاميين وفي المساء اتسعت مساحة الابتسامة على وجهه وأدار حواراً مفتوحاً مع الإعلاميين وعدد من أعضاء الوفد الحكومي، وإشعاع بصري يعبر المجلس من الطابق الأول، كمال عبيد يمر من هنا..! وباقان يكتفي بتحية باردة من على البعد قبل دخول القاعة، كان قد انتهى من تقديم بيان عام عن فك الارتباط مع قطاع الشمال، يقابل البيان بسخرية لأذعة من اللواءين شرفي وعدوي: (هذا طلاق غير شرعي لابد من شهود وحيثيات وأسماء واعداد). ووفد المسيرية يطالع مقترح أمبيكي والحيرة تخترق الورق وقارورات المياه الفارغة لم تنجز مهمة (بل الريق)! ودينق ألور تصحبه زوجته الأثيوبية، ولوكا بيونق يعلن في تليفزيون الجنوب: (لن نقبل بتقسيم أبيي مهما حدث)..! والرئيس البشير ببدلة كحلية اللون يتلقى تنويراً من وفده المفاوض ويقولها بغير التباس: (قدمنا من التنازلات ما فيه الكفاية لا مكان لتنازلات جديدة، نعم نرغب في السلام والتعاون ولكن ليس بأي ثمن)..! ثلاث ساعات تنقص ولا تزيد، كانت مدة الاجتماع التمهيدي بين الرئيسين (البشير وسلفاكير) في الطابق الأول بحضور أمبيكي وطاقم آليته، مع إدريس وباقان، فجأة اختفى أعضاء الوفدين من بهو الفندق، إلا هارون وعرمان!! الكاميرات تتسابق لترصد تعابير الرئيسين بعد انتهاء اللقاء، لا تصريحات اليوم، ضاعت ملامح الرجلين في زحام رجال المراسم والأمن ولكن ربما تسمع ضحكة مقتضبة تصدر من أحدهما وابتسامات سريعة الانسحاب تفشل فلاشات المصورين في اصطيادها تأتي من الآخر. سألني أحدهم في وفد الاتحاد الأوربي: (هل أنت متفائل)، قلت له كل شيء هنا قابل لأن يتحول لضده لا ثابت هنا سوى طقس أديس الذي لا يعرف التقلب وصناعة المفاجآت..!