ولماذا لا أكتب إلا إليها؟ لأنها ستظل في قلبي ولأنها دارفور التي ساظل أكتب عنها، ليس ترفا في المشاعر ولا هي موضة حزن وأيضا ليس لأنه لا مشاكل في أجزاء الوطن الحبيب الأخرى، ليس تحيزاً أعمى ولا خدمة لجهة بعينها، بل هي تصفية حب قديم. أكتب عنها لأن قلبي فيها وليس للقلب قانون مكان، أكتب عنها وإن كان ذلك لا يناسب البعض، أكتب عنها لأنها صامدة بمجدها الخالد وتاريخها المجيد رغم النزوح والترحال والتشرد وانتظار الهبات من الدول أعطت أو منعت، هي الأرض التي لطالما عمت خيراتها عموم السودان، هي أرض الخيرات والذهب الأسود والمعادن النفيسة رغم العوز والحاجة، هي الكريمة رغم مهانة الموت المجاني، هي الحبيبة رغم نسيانها لتاريخها. تبدلنا وتبدل حالنا، ما عدنا ملوكا ولا سلاطين، والسلطنة حكمة ومشورة ورأي قبل أن تكون وراثة وتوريث، لم يعد لدينا كبير ولا مرجعية رأي ومشورة ليقودنا في سنينك العجاف. هذه عبارة قالها السلطان علي دينار قديما، قالها عندما كان سلطانا لا يشق له غبار، قالها عندما كان الناس يعرفون قيمة الكلام وكنتِ أنتِ تعرفين قيمة الرجال والسلاطين. (لا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل للمال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل). إن الإنصاف لا يأتي بالعنف لأن العنف لا يلد خيراً قط. ولا قلب إضافي لطوارئ البكاء على وطن كامل وأرض غارقة حتى النخاع في الخلافات السامة. تاهت الحياة بيننا وأصبحنا فاقدين للدليل والمعين. دماء حارة بدل أن تروي الحياة روت الأرض، مئات بل الآلاف من الناس ماتوا دون وجه حق وبلا سبب واضح. دارفور هي الأمان الذي يجب أن يعود هي الحياة، كما ينبغي لها أن تكون. إن دموع النساء غالية لو كانوا يفقهون، هي الأطفال وخوفهم وحقهم في الحياة.. أرضُ من غضب وحماقة ومازالت دماء الفتنة تجري في الشرايين، وكلما أوقد البعض شمعة أمل أوقد آخرون ناراً للحرب متجددة بأسباب أقل بكثير من أن يموت بسببها العشرات، سرقات أبقار وبهائم أو نزاع بين شخصين مختلفي المناطق الجغرفية أو بسبب الحواكير.. نساء زهدن وكل أمانيهن اختزلت ومنذ أكثر من عشرة أعوام هي غرفة صالحة للولادة، مركز يفتح أبوابه على الدوام، هناك في الأمكنة البعيدة والتي عادة لا يتذكرها الحكام، في الأرياف والبوادي حيث يقطعن المسافات الطوال على ظهر كارو ليصلن لأقرب مستشفى، منهن اللائي أنجبن أطفالهن في الطريق ومنهن العشرات اللائي قضى عليهن النزيف، ومازال الحلم وذات الطلب، معسكر نزوح داخلي به أكثر من مائة وسبعين ألف أسرة وأمنية توفير مكان آمن للولادة.. بالله أي قلب هذا الذي بين جنبات السودان، وأي بلاد هذه التي تُصدر الظلم أنواعا. النساء هن الحياة، لكن الهم والحزن كبر عليهن والحمل أيضا، لقد هدّت الحروب والترحال أجسادهن. لم تعودي كما كنتِ ولن تعودي، تشتت أرضك وفزعت بهائمك وأذلت الحروب نساءك، وكلٌ له من أولادك نصيب، الرصاص والانشقاق، أهواء الدنيا والصراعات، الهجرة والاغتراب، المرض وهوان الحاجة، نزاعات لا تفتأ تنشأ، سلاح سكن دروبك وبيوتك وطرقاتك كما سم الأفعى الذي يوخز جسدك كل حين. ضاعت فيك هيبة الكِبار ورحمة الصغار ومكانة النساء وكأنكِ بلا ماضٍ مجيد، شاخ الأمل في أرضك الخضراء وما عاد قلبك يضخ الحياة، هو الرماد الذي سكن قراك ومدنك الصغيرة. كيف أرثيك وأنت غطاء القرمصيص الذي لطالما غطى السودان بمهر غالٍ.. أنت من سند أعظم ثورة في السودان على الإطلاق وجاءت بشهادة كرامة على جدار التاريخ ناصعة البياض رغم ما دُفع فيها من دماء. الآن أنتِ في السوق الرجال يتنافسون عليكِ كلُ يعقد مؤتمره متحدثا باسمك ليكسب وجودا وهو لا يدري أنه يبيع نفسه العارية من الوفاء والعرفة. ماذا يعني أن تبني يدٌ وأن تأتي مئات الأيدي من مكان ما لتهدم، أن يُبنى لك مستشفى ومدرسة ليأتي من يبحثون عن كراسي وسلطة وامتيازات، أن يُرفع لك علم سلام لينشق من ذات المجموعة آخرون ليمزقوا بعضهم من أجل خلاف وزارة أو مال وكيف يتحدثون باسمك؟ وكيف هو الحب! أي لغة وطن هذه وأنتِ زرعك يُحرق وإنسانك يُقتل وأموالك تُسرق، بأي لغة حب يتحدثون وأولادك في دروب الدنيا موزعين يبحثون عن كرامة الحياة ولقمة العيش. وكلٌّ باسمك يصنع جيشا ويملك سلاحا وينشر مع الهواء الخوف والرعب. كلهم سيذهبون وأنتِ باقية وإن كانت الفاتورة باهظة الثمن. إننا ندفع ضريبة حبك وجعاً، هذه الحروف ما خرجت من القلم بقدر ما خرجت من القلب وما خطها حبر بقدر ما كان حبرها دم نقي من شراييني. قد لا أعيش حتى أرى أمانك من الخوف وإطعامك من الجوع وكرامة نسائك؛ لكنك قطعا لن تنسَي حبّي لكِ يا عفيفة، فالحب الصادق لا يُنسى ولا يُدفن مع الزمن، هو كالشمس يسطع واضحا ليُضيء للقمر فضاءه ودنياكِ والدروب والقلوب، هو حب تتنفسه أشجارك قبل إنسانك، هو مجدٌ يُستعاد حتماً وتاريخاً سيبقى ما بقيت الدنيا ووفاءً أحمله لكِ ما عشت وقصصا سنحكيها للقادمين من بعدنا.