النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تقديم وعرض حامد فضل الله – برلين
نشر في السوداني يوم 03 - 08 - 2019

صدر عن دار سطور في عام 2019 كتاب للأستاذ فالح مهدي، بالعنوان أعلاه. الكتاب من الحجم المُتوسِّط ويقع في 302 صفحة ويحتوي بجانب المُقدِّمة على ثلاثة فصول، بجانب عنوان كل فصل، عناوين فرعية كثيرة.
كلمة "السفالة" في عنوان الكتاب تصدم القارئ في البداية وتُوقظ فضوله في عين الوقت. يقول الكاتب في المُقدِّمة، بأنّه استخدم في السابق مصطلحاً "تافهاً"، ولكنه وجد أن مصطلح "سافل" يُعَبِّر أفضل تعبيرٍ عما يعنيه بالتفاهة. وتتبع مفهوم السفالة في عدة لغات، بجانب العربية، والفرنسية والإنجليزية، وتعني إجمالاً، الوغد والمُنحط وعديم الشرف، والتعبير لا ينطبق فحسب على الفرد، بل يشمل الجماعة أو الحكومة أو الدولة، وللمُصطلح مفهومٌ سياسيٌّ وأخلاقيٌّ وأيديولوجيٌّ.
يبدأ الكتاب بفصل نظري بعنوان "قراءة في العُنف"، يمثل ثلث صفحات الكتاب.
يكتب فالح "ليس من اليسير تعريف العُنف، بالرغم من وجود اتّفاق ضمني من أنّ العُنف يعني القتل، التعذيب، العدوان، الاِبادة الجماعية، الحروب والإرهاب …الخ. ومع هذا الفهم البديهي والمُسبق، إنّما يبقى السؤال قائماً، ماذا نعني بالعُنف"؟ لذلك لجأ إلى القواميس العربية، الإنجليزية والفرنسية للتّعرُّف عن كثبٍ على ذلك المصطلح. كما أشار إلى الفرق بين العُنف والعدوان، ففي حالة العُنف، بالرغم مما يحمله من طابع التدمير، إنما يجيزه التشريع ما دام يتم في إطار الدفاع الشرعي عن الذات، أما العدوان، فهو فِعلٌ ومُبادرةٌ للقيام بعمل يُراد منه الحد من وجود الآخر أو نشاطه، وهنا تبرز طاقته التّدميريّة. ويُعدِّد بعض أنواع العُنف: العُنف الرمزي، العُنف الاقتصادي، العُنف المرضي، العُنف الطبيعي (مثل الفيضانات والعواصف)، العُنف المُقدّس المُرتبط بالمُؤسّسة الدينية والعُنف كوسيلةٍ للحكم (صدام حسين في العراق، الأسد الأب والابن في سوريا، القذافي في ليبيا، المُؤسّسة العسكرية في الجزائر كنماذج) والعُنف في المنظور الماركسي، فالمقولة الجوهرية في الفكر الماركسي تعتبر الصراع الطبقي مُحرِّك التاريخ، فليس اللجوء إلى العُنف يولد التّحوُّلات الاجتماعية، بل إنّ التّحوُّلات الاجتماعية لا تتم دُون عُنف …إلخ. وعن تاريخ العُنف والإبادات الجماعية، يذكر ما قام به الجيش التركي من إبادة ما يقرب من مليون أرمني. الاِبادة الرواندية. الفترة الاِرهابية الستالينية والثورة الثقافية في فترة ماوتسيتونغ وفي إندونيسيا في فترة سوهارتو …إلخ، ويقول: "يقف خلف مُعظم الاِبادات الجماعية الأنظمة الأيديولوجية كالنازية والفاشية. الدول التي تتحكّم بها أيديولوجيات مُتطرِّفة، تهيئ وتتسامح في قيام المَذابح الجماعيّة في داخل حدود تلك الدولة أو خارجها". ويختم بمقولة "عملية إبادة الآخر لا علاقة لها بتدني وعي الإنسان وجهله، فقد قام بها قومٌ هُم رُوّاد الفلسفة في القرن التاسع عشر ورُوّاد المُوسيقى الكلاسيكية"، وقام بها مَن يَدّعي من أنّه "شعب الله المختار" لقتل الأطفال والنساء والشيوخ العُزّل من الفلسطينيين، وما زالت القائمة طويلة.
الفصل الثاني بعنوان "العراق المعلول"
يقول فالح، لقد كُتب الكثير عن العراق المُعاصر، مُعظمها تناولت الجانب السِّياسي، ولذلك ليس في نيّته إضافة مؤلف آخر عن التاريخ السياسي، لكنه يعتمد على ما كتبه هؤلاء الباحثون، مع قدرٍ من الادّعاء، بإتيان عوامل وأسباب لم يتم التركيز عليها. يبدأ أولاً بالجغرافية، سارداً تنوُّع مناطق العراق ودور الصحراء في تكوين المجُتمع، وتنوُّع سُكّانه منذ الأقوام الرُّحّل في العالم القديم والهجرات البدوية… ثم يقوم بتقسيم المراحل التي طبعت العراق المعاصر على النحو التالي:
"العثمنة". بعد سُقُوط بغداد في عام 1258 دخل العراق وكل البلاد الناطقة باللغة العربية (عدا المغرب)، تحت الحكم المغولي التركي. ويقول "إنّ الرحلة المُمتدة من 1258 وإلى 1914 مثلت الموت السريري لهذا البلد والذي كان في القرون الوسطى وعبر مدينة بغداد يمثل أرقى ما تَوَصّلَ إليه الإنسان من رُقي، تَحَوّلت إلى أرض خربة".
"الملكية والدخول في التاريخ (1921 – 1958)"
"لقد مرَّ العراق بعد سقوط بغداد في عام 1258 بسلسلةٍ لا تُعد ولا تُحصى من المآسي التي أخرجته كلياً من التاريخ، لذا يُعد الاحتلال البريطاني للعراق في تقديره بداية دخول هذا البلد في حركة التاريخ وحيويته. الاحتلال البريطاني يمثل موضوعياً إعادة ولادة هذا البلد!". هكذا يكتب فالح ويُعَدِّد الإصلاحات التي قَامَ بها المُستعمر البريطاني في فترة الاحتلال (1918 – 1932)، بما لم تقم به الإمبراطورية العثمانية خلال أربعة قرون. ويُشيد بالملك فيصل الأول وبذكائه وحصافته وسعيه لإنشاء أمة عراقية ودولة مُعاصرة وشَعبٍ مُتحضِّرٍ. ويواصل، بأنّ نوري السعيد الذي كان يُدين بسُلطته إلى المُستعمر البريطاني، قد أفاد العراق كثيراً، بإنجاز الكثير من المشاريع العمرانية، إضافةً إلى تطوُّر الثقافة والعلم. ويُشير إلى فترة الخمسينيات من القرن الماضي والصراع بين المُعسكر الغربي والمُعسكر الشرقي والحرب الباردة، التي أجهضت تلك الفترة الفريدة في تاريخ العراق المُعاصر، فسقط ذلك النظام في الانقلاب العسكري في 14 تموز عام 1958.
"العصر الجمهوري وحكم الأقلية" (1958 – 2003). يعتبره الكاتب البداية الفعلية لدمار العراق ولا تزال آثاره فاعلة. ويُقَسّم هذا العصر إلى مراحل:
"المرحلة الأولى" (1958 – 1963) وهي مرحلة رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم وتمثل أعظم ما أنجز في هذا العصر، من تخطيط وعمل ومشاريع عمرانية وثقافية …إلخ.
"مرحلة الأخوين عارف" (1963 – 1968)، عبد السلام عارف ودوره مع البعثيين في انقلاب 1963، مُشيراً أيضاً إلى جهله ونزقه وطائفيته وإقليميته مُقارنةً بفترة أخيه عبد الرحمن عارف، التي كانت فترة من السلام الأهلي وانتعاش للأدب والفن.
"مرحلة البعثنة أو التوحش البعثي" (1968 – 2003) تمثل مرحلة البداية الفعلية لدمار العراق في العصر الراهن، إنّها مرحلة التصفيات البربرية وقيام نظام مافيوي بقيادة صدام حسين، شخص عدواني وعنيف ومُضطرب نفسياً ومجرم وقاتل وتحويل حزب البعث إلى مافيا عائلية.
"مرحلة الاحتلال الأمريكي وسُقُوط العراق" (2003 – ولم تنتهِ لحد الآن).
يمثل سقوط البعث في عام 2003، نهاية الدولة القومية التي جلبها البريطانيون في بداية القرن العشرين وبداية دمار جديد. ويمثل أيضاً الإنتقال من رثاثة البعثنة إلى رثاثة النرجسية الثقافية الإسلامية بشقيها الشيعي والسني، القائمة على مخيلة ماضوية.
يأتي الفصل الأخير بعنوان:
"لماذا وصلنا إلى هنا؟ مُلاحظات وانطباعات"
يُناقش فالح هنا طبيعة السلطة السياسية التي حَكمت العراق بدءاً من عام 2003 ومن قبل رجال بعيدين عن أيِّ حس وطني، بل محكومين بمفاهيم بالية تعود إلى فترة قبل الحداثة، فتجاوز الحُكّام الجُدد صدام حسين. ويشير أولاً إلى قانون الجنسية رقم 42 لسنة 1924 الصادر من السلطات الملكية، وكذلك رقم 43 الصادر مع انقلاب 1963، الذي زاد مشكلة الجنسية تعقيداً وأكثر عُنصريةً. ويقصد الكاتب هنا التمييز في الجنسية العراقية بين (أ) و(ب)، إذ اعتبر الدستور أنّ العراقيين هم من يحمل الجنسية (أ) عثمانية، ومن يحمل الجنسية (ب) هم من التبعية الإيرانية. وكل الذين حملوا الجنسية (ب) هم من العرب الشيعة في حين أن من حمل الجنسية (أ) هم من العرب السُّنة. وفي هذا تمييزٌ طائفيٌّ جائرٌ أغاظ الشيعة.
ويقول، لقد ساد في العراق منذ سقوط الدولة العثمانية، وحتى الآن ثلاث أيديولوجيات: الجماعات الدينية (سنية وشيعية) والأحزاب القومية والحزب الشيوعي العراقي. ويشرح بالتفصيل التوجُّهات الثلاثة، التي لا يجمعها جامعٌ.
ثم يتعرّض فالح لبعض المفاهيم والمُصطلحات ويشرحها مثل: الدولة الريعية، الطفيلية، الأخصاء، نمط الإنتاج الآسيوي والاستبداد، الثقافة العميقة والمُثّقف العَاهر، القضية الكردية، الهوية والذاكرة مرةً أخرى، الماضوية والفاشية، داعش الوجه الآخر للتوحش البعثي والأوهام الثلاثة، ويقصد بهم، الوهم القومي والوهم الشيوعي وأخيراً الوهم الإسلامي.
يختتم فالح كتابه "ومع مُرُور ما يقارب القرن على تنصيب فيصل الأول ملكاً على العراق من قِبل البريطانيين في عام 1921، سيحتاج العراق إلى مؤسسة وقيادة فيها شئ من حكمة ذلك الرجل وحكمته، أي معاملة العراقي على ضوء كفاءاته وقُدراته، توطيد مفهوم المواطنة، الخروج من الدولة الريعية، القضاء على كل مصادر الطفيلية سياسية، دينية، مالية، إيجاد قوانين تسمح للمرأة في المساهمة الفعّالة في بناء المجتمع، الأخذ باقتصاد السوق وتطوير التعليم باعتباره أكبر رأس مال".
هذا عرض مُكثّفٌ جداً لكتاب فالح، عكس فيه أفكاره ورؤياه واستنتاجاته، يدعمها باستخدام التاريخ والفلسفة وعلم النفس وعلم اللسانيات، مِمّا يُتيح للقُرّاء والقارئات مُطالعة مُتنوِّعة. وكتاب فالح مثل كل الكتب الجَادّة، بقدر ما تدفع إلى تحفيز التفكير والتّمعُّن، تُثير في عين الوقت الكثير من الأسئلة والشكوك.
أقدِّم هنا بعض المُلاحظات، وقد سعدت واستفدت كثيراً بقراءة هذا الكتاب القيِّم، الذي وصلني هدية من باريس حيث يقيم الكاتب، والذي التقيت به عَرضاً قبل فترة طويلة في برلين، وكان قد أرسل لي من قبل مشكوراً، كتابه المهم الآخر "الخضوع السني والإحباط الشيعي، نقد العقل الدائري"، وهكذا تُبنى العلاقات الفكرية.
تَعَرّض الكاتب لموضوع الهُوية في بداية ونهاية الكتاب، مما يعكس اهتمامه بهذه القضية وخَاصّةً في المُجتمعات المُتَعَدِّدَة ثقافياً ودينياً وإثنياً وطائفياً وقبلياً، مثل العراق. إنّ فشل القيادات السياسية في إدارة هذا التنوُّع كما حَدَثَ في السودان كمثال، يقود إلى تَمَزُّق وتَفَكُّك الدولة.. فالمجتمع السوداني الذي تميّز تاريخياً بالتسامُح، وتقبل الديانة المسيحية بنفس السماحة التي تقبل بها الإسلام. حدثت أزمة الهوية وتمزيق المُجتمع عندما تم فرض الشريعة الإسلامية في العهد المايوي، وطرح المشروع الحضاري من قبل الحركة الإسلامية بعد انقلابها العسكري في عام 1989 وفرض الهُوية العربية الإسلامية.
يقول فالح، ما يحتاجه العراق "توطين المُواطنة والخروج من الدولة الريعية وتطوير التّعليم والأخذ باقتصاد السوق…"، وفي فقرةٍ أُخرى يضيف إلى اقتصاد السوق، سيادة المفاهيم الرأسمالية.
فهل هذا هو آخر الدواء بالنسبة لوجهة نظر فالح مهدي؟
يستغرب القارئ هجوم الكاتب على الرئيس جمال عبد الناصر بقوله "لعب هذا الرجل دوراً غير مُشرفٍ في دعمه للتيار القومي المُراهق في العراق. وساهم عبد الناصر بقتل عبد الكريم قاسم أهم شخصية وطنية في تلك اللحظات ولم يزل، وإجهاض مشروع بناء العراق". من غير التّعَرُّض لهذه التُّهمة الغليظة "تهمة قتل عبد الكريم قاسم"، وإنّما أشير فقط إلى ما كتبه فالح في فقرة أخرى، ولقد أصبح من اليقين ومنذ زمنٍ من أن المُخابرات المركزية الأمريكية، كانت تقف خلف ذلك الانقلاب (انقلاب شباط في عام 1963الذي قُتل فيه عبد الكريم قاسم) الدموي والفاشي. وكذلك أود التذكير بهذا البطل القومي الفَذ، الذي قَاوَمَ حلف بغداد، وقَامَ بتحديد الملكية والإصلاح الزراعي وتوزيع الأرض على فقراء الفلاحين (العدالة الاجتماعية) في مصر وتأميم قناة السويس عام 1956 ومُناهضة الاستعمار والانضمام إلى حلف باندونق والتحرير من التبعية للغرب. صَحيحٌ إنّ حلمه من أجل الوحدة العربية لم يَتَحقّق، وبالطبع دون إغفال أخطائه المُتعلِّقة بالحرية والديمقراطية.
يكتب فالح في فقرة "اللا مبالاة":
"لعبت ظاهرة اللا مبالاة ولا تزال دوراً في تجذير السفالة، حيث سمحت بتعملق الأنظمة القاتلة! وهنا أعني الجانب السلبي المُتمثل بالصمت، والقبول بالخضوع وعدم الاعتراض على الفعل السياسي". ولكن يتساءل المرء بالرغم من أن الكاتب يقول بأن روح اللا مبالاة تلك ليست خصيصة شرقية لماذا تقبل الشعوب العربية هذه المهانة والذل والخضوع على مدى ثلاثين سنة أو أكثر، من حُكّامٍ وصفهم الكاتب بأولاد الشوارع وقَتَلَة ومَعتوهِينَ؟ وهل يصدقُ القول "الفاجر"، بأن العربي يُدافع عن شرف ابنته ولا يُدافع عن شرف وطنه؟
قدم فالح في كتابه نقداً لاذعاً للحزب الشيوعي العراقي، بالرغم من أنّني غَريبٌ ومُراقبٌ من الخارج، ولا يعرف بالطبع الكَثير من التّفاصيل الدّاخلية، إلا أنّني أشعر بأنّ الكثير من نقده يتّصف بالمُبالغة.
مثل قوله عن حزب يتكئ على تجربة ثمانين عاماً من النِّضال والتّضحية والعمل السِّياسي المُتواصل، "لم يبذل أيِّ جُهدٍ لفهم الواقع العراقي". أو مثل قوله "كانت قيادة الحزب مُصابة بذلك العمى الأيديولوجي عندما اعتبرت أن مُهمّتها الأولى تمجيد الاتحاد السوفيتي، والتسبيح بعظمة الرفيق ستالين!" وكأن الحزب ليس إلا إمعة وذيل للاتحاد السوفيتي، بالرغم من أنه أشار إلى ظروف الحرب الباردة والصراع بين الغرب والشرق. والاتّحاد السوفيتي، الذي هاجمه أيضاً بقسوة، هو الذي وقف ودعم حركات التّحَرُّر الوطني في العالم العربي وأفريقيا وقام ببناء السد العالي في مصر …إلخ. أو مثل قوله "بأنّ عزيز محمد لا يَتَمَتّع بأية موهبة تسمح له بقيادة الحزب ثلاثين عاماً" ويستشهد بقول أحدهم، "بأنّه لم يره عزيز أبداً بصحبة كتاب". قيادي لمدة ثلاثين عاماً لحزب في قامة الحزب الشيوعي العراقي وغالبية أعضائه من الصفوة والمثقفين، "لا يقرأ". كان يستوجب على فالح الحذر من مثل هذه الشهادة، والتي ربما تكون لها خلفية تصفية حسابات وعدم نشرها في كتاب يتوخى التوثيق الدقيق.
يختتم فالح كتابه "إنما والحقيقة تقال لن تَقوم للعراق قائمة دُون المُساهمة الفاعلة لليساريين العراقيين غير المُنتمين إلى أحزاب ضيّعت أجمل سنوات وجودها بين مطارق الأوهام ومناجل الانتهازية المقيتة".
لم يقل لنا فالح من هُم هؤلاء اليساريون العراقيون، بعد أن أخرج الحزب الشيوعي العراقي من المُعادلة.
يحفل الكتاب ببعض الأخطاء الطباعية والنحوية، لا تخطئها العين وكان من المُمكن تحاشيها بسهولة لو تم تدقيق النص قبل دفعه للنشر.
مُلاحظة أخيرة:
نشر أستاذ الاقتصاد السابق والكاتب العراقي المعروف الدكتور كاظم حبيب في الحوار المُتمدن، مُراجعة لكتاب فالح مهدي، تجاوز فيها الطريقة المُعتادة في مُراجعة الكتب، التي تقتصر عَادةً على بضع صفحات، تعرض الخطوط الأساسية للكتاب، مع تعليق هنا أو هناك، بهدف التنويه بالكتاب وإيقاظ فُضُول القارئ. تقتصر مُلاحظتي هنا على طريقة عرض الكتاب، أي أنّها مُلاحظة إجرائية فقط ولا تتعرّض لمضمون تعليقه أو نقده. جاءت المراجعة في 148 صفحة، وحتى تقديمه للسيرة الذاتية لفالح، والتي جاءت بعنوان "لمحات مُكثّفة عن البروفيسور فالح مهدي"، جاءت في 6 صفحات كاملة ويتقدم حرف الدال، اسم الكاتب فالح عشرات المرات. كما أنّ وضع الهوامش والمصادر الكثيرة في المتن يربك القارئ ويقطع تَسلسل أفكاره، وكان من الأفضل تثبيتها في نهاية النص. كما أنّ نشر المادة على حلقات "22 حلقة"، يصعب تجنُّب التكرار. ما قدمه الصديق كاظم، ليس عرضاً أو تعليقاً كما يقول، وإنّما دراسة جديدة تماماً، صحيحٌ إنّها تَعتَمد على خلفية كتاب فالح وأيضاً على خلفية كتب أخرى عديدة. إنّ تنويه كاظم بأنه سوف ينشر دراسته العميقة ُالتي اشتبك فيها مع أفكار وأطروحات الكاتب ناقداً ومضيفاً، في كتاب، هو قَرارٌ سَليمٌ وبذلك نكون كسبنا كتاباً جديداً لكاظم يُضاف إلى كتبه العديدة القيِّمة في مجال الاقتصاد والفكر السياسي.
1 فالح مهدي. مقالة في السفالة، نقد الحاضر العراقي، دار سطور للنشر والتوزيع – بغدادالعراق، الطبعة الأولى - سنة 2019.
2 فالح مهدي، باحث وكاتب وروائي وقاص عراقي، حاصل على دكتوراه "دولة في القانون"، من جامعة باريس 10. وأستاذ سَابِق في نفس الجامعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.