بروح من التفاؤل الحذر قابلت الخرطوم اتفاقيات التعاون التي جرى توقيعها بين الرئيس البشير ونظيره الجنوبي سلفاكير في اديس ابابا نهاية الأسبوع الماضي، إلا أن طقس الخرطوم لم يكن مماثلا للعاصمة الجنوبية جوبا التي انقسمت امس الاول ما بين مؤيد ورافض للاتفاق وسط احتمالات مفتوحة من أن يؤدي رفض الاتفاق لانقسام جديد في الحركة الشعبية بخاصة عقب تصدر مجموعة عسكرية مؤثرة في صفوف جيش الجنوب الشعبي بقيادة حاكم بحر الغزال للمشهد في جوبا امس الاول واعلانها عدم قبولها تطبيق الفقرة الامنية المتعلقة بمنطقة 14 ميل. يجيء ذلك التطور السريع في اعقاب التوقيع على اتفاقيات التعاون المشترك بين البلدين في وقت قلل فيه مراقبون من تأثيرات تلك المجموعات ودعوا حكومتي الخرطوموجوبا للإسراع في تطبيق ما تم الاتفاق عليه لقطع الطريق امام اي خيارات اخرى. انقسام جوبا ورغماً عن الاستقبال الحاشد لرئيس الجمهورية وتأييد قطاعات واسعة من السودانيين لاتفاقيات التعاون بين البلدين إلا أن البعض ربما يبدي حولها بعض الملاحظات والاعتراضات بيد أن المؤشرات كافة تدل على أن تلك الاعتراضات المتوقعة ربما تصدر من جماعات مدنية أو كيانات سياسية ولا ترتقي لمستوى المؤسسات الرسمية. وعلى عكس ما هو متوقع في الخرطوم فإن جوبا بحسب الاخبار والتقارير الواردة منها لم تتوقف حالة الانقسام حول الاتفاق في اوساط المواطنين ما بين مؤيد لاتفاقيات التعاون التي رأوا فيها خطوة اولية من شأنها تمهيد الطريق لاتفاق شامل بين البلدين أو ما عبر عنه البعض الآخر من مخاوف من عدم صمود الاتفاقيات لسبب ما قالوا انها تفتقد لآليات فرضها وعدم مخاطبتها لبعض القضايا التي يعتبرونها جوهرية مثل ملف منطقة ابيي وترسيم الحدود. وفى الخرطوم نجحت السلطات في تخفيض حدة الخطاب المناوئ لما تم التوصل له، لكن الحالة في جوبا تجاوزت مخاوف المواطنين، لتصل درجة الرفض لاتفاق الترتيبات الامنية، التي ربما جاء اعلانها من هناك قاطعة الطريق أمام رئيس دولة الجنوب الذي وصل الى جوبا وادت لتسميم الاجواء الإستوائية بشكل لم يمكنه من إلقاء خطاب مطمئن يماثل في توجهاته إن لم تكن مفرداته خطاب نظيره السوداني الرئيس البشير بمطار الخرطوم امس الاول، الامر الذي ربما دفع الرئيس ميارديت لمغادرة مطار جوبا الى منزله، إذ تزامن وصوله مع انعقاد المؤتمر الصحفي لمجموعة رافضة لبروتكول الترتيبات الامنية. وطبقاً لما اوردته الزميلة (الصحافة) نقلا عن وكالات امس فإن المجموعة التي يتزعمها حاكم ولاية شمال بحر الغزال الفريق بول ملونق عبرت عن رفضها للاتفاق الامني بخاصة تطبيق الفقرة المتعلقة بمنطقة 14 ميل التي مثلت واحدة من اصعب مراحل التفاوض في قمة البشير- كير الاخيرة، وقال ملونق الذي يعد من ابرز القيادات العسكرية في جيش الجنوب الشعبي عن رفضه والمجموعة التي معه للفقرة المتعلقة بالمنطقة منزوعة السلاح في 14 ميل، واعلن رفضهم للبروتكول واعتبروا أن به تنازلات غير مبررة. ولم ينتهِ امر ملونق ومجموعته عند ذلك الحد اذ عمد على حث شباب المنطقة على الانخراط في مجموعته الرافضة للاتفاق ودعاهم للدفاع عن مناطقهم بما يستطيعون. ثورة الرافضين فيما استبعد خبير الإستراتيجيات العسكرية الفريق الفاتح الجيلي المصباح اي اثر امني أو عسكري يمكن أن ينجم من تصريحات حاكم بحر الغزال مستنداً لحقيقة أن اتفاقيات التعاون تمت بحضور وموافقة المجتمع الدولي. ورأى المصباح في تعليقه ل(السوداني) أن مثل تلك الاعتراضات هي قضايا داخلية تقع تحت مسئولية الحكومتين في البلدين اللذين قال انهما إما أن يتجاوزاها أو أن يقفا منها، وتوقع أن تجبر حكومة الجنوب الرافضين للاتفاق على احترامه والموافقة عليه وبغير ذلك اعتبر مصباح الرافضين بمثابة متمردين على نظام بلادهم. حتى هذه اللحظة لم يصدر من اي جماعة في الخرطوم رأي رافض لاتفاق البشير- كير، لكن ما بدر من اعتراضات لقيادات عسكرية بارزة في جوبا ربما يمثل بدايات ازمة حقيقية إما أن تقود الحكومة هناك للرضوخ لضغوطات العسكر أو أن تدخل في مواجهة عسكرية محتملة معهم في حال عدم إفلاحها في اقناع تلك المجموعة بجدوى الاتفاقيات. وهنا يقول السفير عثمان السيد أن الرئيس سلفاكير الذي ينحدر من بحر الغزال عندما وقع الاتفاقيات يدري جيداً ما يجري في مسقط رأسه (دينكا بحر الغزال). واعتبر السيد في حديثه ل(السوداني) أن مثل تلك الاعتراضات قد تكون مفهومة، مشيراً في الوقت ذاته الى أن الاهم من فهم ذلك ادراك حقيقة أن تلك الاتفاقيات التزام بين حكومتين. ويمضي السيد للقول إن الاتفاقيات يقف وراءها المجتمعان الاقليمي والدولي. وحذر بشدة من أن فتح المجال للاعتراضات والاضطرابات التي تحدث من هناك أو هنا من شأنه أن يؤدي لخلل في المعاني الكبيرة لتلك الاتفاقيات. واستعبد تطور الاوضاع هناك قائلاً إن الرئيس كير بمقدوره السيطرة على تلك المظاهر التي بدرت من حاكم بحر الغزال ومجموعته. وعن الآليات السياسية الواجبة اتباعها من قبل حكومتي البلدين لضمان عدم تخريب الاتفاق طالب عثمان السيد بالإسراع في تنفيذ تلك الاتفاقيات وفق جداولها بخاصة في جوانب الدفاع والامن واللجان ذات الصلة بعمل وزارة الداخلية وانسياب حركة المواطنين بين البلدين, ولم يغفل الإشارة الى أن افتراض اعتبار تلك الاتفاقيات منزهة امر غير وارد، لافتاً الى أن بالسودان نفسه من لا يرضى بتلك الاتفاقيات ولكنه دعا الحكومتين للالتزام بذلك لكون أن الاتفاق اضحى دولياً.