د. عبدالعظيم ميرغني قصة سلعتين تناقل بعض الأردنيين مؤخراً عبر مواقع التواصل الاجتماعي صورة لرئيس حكومتهم وهو يناول أحد وزرائه قطعة شوكولاته خلال جلسة لمجلس النواب الأردني. وشغف الناس بالشوكلاته أمر شائع ومعلوم وليس قصراً على رئيس الحكومة الأردنية وحده من السياسيين. فهناك من السياسيين والمشاهير (أمثال توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق، ووزير الخزانة الأمريكي السابق بول أونيل، ومغني الروك الأيرلندي بونو، ومغني البوب الإنجليزي كريس مارتن، ونجم الكوميديا البريطانية هاري هيل) من بلغ شغفهم بالشوكلاته مبلغاً دفعهم لزيارة مزارع الكاكاو -المكون الرئيس في تصنيع الشيكولاتة- في مواطن إنتاجها الرئيسة بساحل العاج وساحل الذهب (غانا) بغرب أفريقيا. وحين انعقدت قمة اسكتلندا للدول الصناعية الثماني الكبار عام 2005م والتي خصصت لتقديم المساعدات لأفريقيا لم يجد منظمو حملة محاربة الفقر بافريقيا الذين احتفوا بتلك القمة هدية يقدمونها لأعضاء الوفود أفضل من ألواح الشوكولاته المصنوعة من الكاكاو الأفريقي. قصة تجارة الكاكاو في غرب أفريقيا صورة طبق الأصل لقصة تجارة الصمغ العربي في السودان في ظل الإحتكار، ومن حيث الأهمية الإقتصادية للمنتج، وعلاقاته الإنتاجية ونظام إحتكار تجارته. ومن حيث كون السلعتان سلعتي صادر ولا يستخدم منهما محلياً شئ يذكر. وما يجمع بين السلعتين أيضاً هو ضآلة حصيلة منتجيهما من عائداتها إذ لم يزد العائد عن 4% من السعر النهائي للوح الشيكولاتة المصنع بالنسبة لمنتجي الكاكاو وحوالي 15% من السعر النهائي لصادر طن الصمغ (فوب) لمنتجي الصمغ قبل إلغاء نظام الإحتكار. هذا مع بعض الاستثناءات، كأن يتطلب إنتاج الكاكاو مدخلات زراعية كالأسمدة في حين أن إنتاج الصمغ لا يتطلب ذلك. وأن الكاكاو سلعة سريعة التلف لا يمكن تخزينها لفترات طويلة، على عكس الصمغ الذي يمكن تخزينه لما يزيد من قرن كامل دون أن يصيبه تلف في خصائصه الفيزيائية أو الكيميائية. أدخلت شجرة الكاكاو إلى غانا بواسطة أحد المستوطنين في العام 1879 وبحلول العام 1955 بلغت صادرات غانا منها 68% من الإنتاج العالمي وصارت بذلك الدولة الأولى في العالم المنتجة للكوكا. ويعكس أهمية هذا الكاكاو في الإقتصاد الغاني قولهم الساير (الكاكاو هي غانا وغانا هي الكاكاو). ينتج الكاكاو في مزارع صغيرة يتراوح حجمها في المتوسط ما بين 7 إلى 8 فدادين بمتوسط انتاجي يبلغ حوالي 55 كجم للفدان تحت إشراف مجلس الكاكاو الدي أنشأته غانا في العام 1847 لأغراض تحديد سعر الشراء الأدنى وليقوم بالتعامل مع المشترين نيابة عن المنتجين. وبالرغم من أن الأهداف الواضحة لإنشاء المجلس هو تعزيز القوة التفاوضية للمنتجين إلا أن المجلس ظل متهماً بلعب دور آخر غير معلن كآلية حكومية للاستحواذ على عائدات الكاكاو خصماً على حساب المنتجين. صار الكاكاو أحد الأجندة السياسية الساخنة في الساحة الوطنية الغانية قبل استقلال البلاد عام 1957. ففي ذلك الوقت –حوالي العام 1954- كان ِإقليم الأشانتي ينتج نصف إنتاج غانا من الكاكاو. حينها أعلن الرئيس كوامي نيكروما أن الكاكاو محصول قومي يوجه عائده لأغراض التنمية القومية ورفع مستوى معيشة كافة المواطنين وليس فئة المنتجين فحسب. ووجه -بصفته رئيس الوزراء- مجلس الكاكاو بتثبيت سعر الشراء الداخلي على مدى أربع سنوات قادمة بالرغم من تصاعد أسعار الكاكاو في الأسواق العالمية في ذلك الوقت. فتصدت لذلك ما سمي ب"حركة التحرر الوطنية" التي اتخذت من شجرة الكاكاو شعاراً لها في انتخابات 1956 ونادت بالفدرالية بغرض ضمان نصيب وافر من ثروة الكاكاو لمناطق إنتاجها. وقادت الحركة حملتها الانتخابية مستندة على شائعات واسعة التداول بفساد مجلس الكاكاو، وحثت الناخبين على التصويت لشجرة الكاكاو واتهمت نكروما بالتحيز ضد إقليم الأشانتي لأنه لا ينتمي إليه حسب زعمها. ورد نيكروما بحملة مضادة دشنها بقوله (أولئك المجانين الذين يحدثونكم عن الكاكاو والفساد لا يريدون الاستقلال لبلادنا). في فبراير1966 رفع الإنقلابيون الذين أطاحوا بنكروما شعار "نظافة البلاد بالدماء من المفسدين"، وفسروا المفسد بأنه كل شخص يختزن سلعاً أو يتقاضى أسعاراً مرتفعة أو كل من يمتلك سيارتين أو منزلين فأكثر. وكان من بين المستهدفين العاملون بمجلس الكاكاو الذين عرفوا بامتلاكهم لمنازل وسيارات متعددة وفخمة والذين لم يجدوا مفراً إزاء تلك التهديدات سوى النجاة بأرواحهم. وفي هذه الفترة بلغ التضخم مداه وتدنى نصيب المنتج من السلعة بسبب المغالاة في الضرائب والجبايات فأخذوا في تهريب انتاجهم لساحل العاج المجاورة حيث الأسعار أكثر ارتفاعاً. وهبطت بذلك صادرات غانا من 500 ألف طن سنوياً إلى 160 ألف طن سنوياً ومن ثم فقدت لقبها كأكبر مصدر للكاكاو في العالم لصالح جارتها ساحل العاج بدءاً من العام 1983. في ساحل العاج تعاظمت أرباح النخبة الآيفورية والمستثمرين الفرنسيين العاملين في مجال الكاكاو من هذا الازدهار التجاري حتى قيل أن رئيسها Boigny الذي ينسب له الفضل في السياسات الليبرالية التي أدت إلى هذا الإزدهار التجاري ابتنى له قصرين استخدم في أحدهما 22 صنفاً من الرخام وشيد الآخر في مسقط رأسه مستخدماً فيه 1500 عامل على مدى ثلاث سنوات حتى تمام إنشائه. حسبما جاء في كتاب "أمم الشوكولاتة: الموت والحياة في سبيل الكاكاو في غرب أفريفيا، لمؤلفه أورلا ريان... نواصل.