[email protected] أخيراً، صدر قرار مجلس الأمن الذي كثرت حوله المجادلات في السودان خلال الأسابيع الأخيرة، وقد قرر المجلس وفقاً له إنشاء بعثة الأممالمتحدة المتكاملة لدعم الانتقال في السودان (يونتامس)، كبعثة سياسية خاصة تعمل بتفويض تحت الفصل السادس من ميثاق الأممالمتحدة، وبمكوّن مدني وإقرار واضح بعملها على نحو يؤكد الاعتراف باستقلال السودان وسيادته ووحدة شعبه وأرضه، مع ضمان المِلكية الوطنية التامة في المهام التي ستضلع بها البعثة. لم توضع البلاد بكاملها تحت الإشراف الدولي، إذاً، ولم تُشرع أبواب السودان أمام التدخل العسكري الدولي كما كان يُروّج. وعلى العكس من ذلك جاءت لغة القرار المنشئ للبعثة السياسية داعمة لجهود الفترة الانتقالية بالعون والنصح والإسناد، وعُرِّفت مهمة البعثة تعريفاً دقيقاً يتماشى مع مطلوبات حكومة السودان كما وردت في خطاب رئيس الوزراء للأمم المتحدة في فبراير الماضي. وما زاد عن تلك المطلوبات من مهام هي أشياء رأى مجلس الأمن، من تجارب دولية مماثلة، أن يضعها تحت تصرف السودان عند الحاجة. لا أستهدف في هذه المقالة الموجزة استعراض مضامين القرار الذي أنشأ البعثة السياسية، فهو متاح في مظانه بالفضاء الإلكتروني العام للأمم المتحدة، إنما الغرض هو إيضاح بعض الجوانب الملتبسة أو الخاطئة ومناقشة بعض المغالطات التي لا يؤيدها دليل منطقي أو واقعي. أولى الجوانب التي تحتاج إلى توضيح هي هل قرار إنشاء البعثة هو بالفعل قرار تحت الفصل السادس؟، ولماذا لم يُذكر ذلك في متن القرار؟ الواقع أنه، وباستثناء القرارات التي يصدرها مجلس الأمن تحت الفصل السابع، فإن المجلس لا يشير إلى أي فصل من فصول الميثاق في القرارات الأخرى. ويعلم الدبلوماسيون الذين لديهم اختصاص في العمل الدبلوماسي متعدد الأطراف أنه عندما لا يُشار للفصل السابع، فإن القرار يندرج تلقائياً تحت الفصل السادس وفقاً لمنهج عمل مجلس الأمن وقواعده الإجرائية. ولم يسبق في تاريخ مجلس الأمن أن أشار في قراراته إلى فصل فيما عدا الفصل السابع. والسبب في ذلك يرجع إلى أن القضية التي يعالجها القرار الذي يصدر تحت الفصل السابع هي بمنظور مجلس الأمن تمثل تهديداً للسلم والأمن الدوليين وبالتالي فإن القرار المتخذ بشأنها ملزم وواجب التنفيذ. وتحمل قرارات مجلس الأمن الصادرة بموجب الفصل السابع عبارة ثابتة تنص على (وإذ يتصرف مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من الميثاق…. إلخ). تجدر الإشارة إلى أنه، وفي قرارت الفصل السابع، وبغض النظر عن الاعتبارات الشكلية مثل ورود عبارة الفصل السابع في أول أو منتصف أو آخِر القرار، فإن القرار يُنظر إليه كوحدة واحدة ويُصنّف أنه قرار تحت السابع السابع بغض النظر عن موضع عبارة "الفصل السابع" في متنه. ثاني الجوانب التي تحتاج إلى توضيح هي التخوّف الذي ظهر في بعض المقالات المكتوبة والتصريحات السياسية حول إمكانية نقل مهمة حماية المدنيين من يوناميد الى يونتامس. هذا الأمر وإن بدا، جدلاً، ممكن الحدوث إلا أنه وبطبيعة التفويض الحالي للبعثة، وهو تحت الفصل السادس كما أشرنا آنفاً، غير ممكن. ذلك لأن الفصل السادس بطبيعته لا يمنح أي صلاحية في مجال حماية المدنيين، كما أن مسألة حماية المدنيين تتطلب وجود عنصر عسكري وشرطي للقيام بمهمة الحماية، والفصل السادس لا يخول الوجود العسكري. هذا فضلاً عن أن الدول التي تساهم بقواتها وعناصر شرطتها في بعثات الأمم لحفظ السلام لا تدخل في ترتيبات مع سكرتارية الأممالمتحدة للمساهمة بالقوات إلا بعد أن تضمن أن لدى قواتها تفويضاً تحت الفصل السابع يكفل لها الحماية والدفاع عن النفس حال التعرّض إلى أية مخاطر. إلى جانب ذلك هناك اعتبار بيروقراطي مهم يتعلق بعمل سكرتارية الأممالمتحدة؛ فبينما تندرج اليوناميد تحت إدارة عمليات حفظ السلام، فإن اليونتامس ستعمل تحت إدارة الشئون السياسية وبناء السلام، والفرق بين الإدارتين ليس إدارياً يتعلق بالهيكل التنظيمي للسكرتارية فسحب، بل يمتد ليشمل طبيعة المهام التي تعالجها كل إدارة. وفي مسمى الإدارتين توضيح يغني عن الشرح. يدور في أذهان البعض أيضاً تساؤلات حول موضوع التمديد لليوناميد، وهل يعني ذلك أنه كان هناك قرار بخروجها إلا أن التمديد الحالي استبقاها لأجل إضافي.. هذا حديث إن أطلقه كثير من الناس دون أن يكلفوا أنفسهم الرجوع إلى المعلومات في مظانها لما أنحى أحداً عليهم بلائمة كبيرة، أما أن يصدر من أشخاص ذوي فاعلية كبيرة في مجالنا العام، فإن ذلك يستلزم تبياناً للمسألة. ليس هناك قرار لمجلس الأمن بانتهاء مهمة اليوناميد في توقيت زمني محدد مطلقاً، بل أن مجلس الأمن قد قرر في يونيو 2017 خفضاً تدريجياً للقوات تمهيداً لاتخاذ قرار حول إنهاء ولاية اليوناميد مع مراعاة اعتبارات أهمها الوضع الأمني الإجمالي بدارفور. قرار الخفض التدريجي للقوات تمهيداً لخروج اليوناميد يرجع للتحسن في الأوضاع بدارفور قياساً بما كان عليه الحال في 2007 عندما أُنشئت البعثة، وقد لعب اعتبار آخر أيضاً دوراً مفصليا في ذلك القرار وهو سياسة الرئيس الأميركي بخفض النفقات العسكرية الخارجية لبلاده، ومنها مساهمة الولاياتالمتحدة الطوعية في عمليات حفظ السلام، ومعلوم أن الولاياتالمتحدة هي أكبر ممول لتلك العمليات وبفارق كبير عن غيرها من الدول. خفض الإنفاق العسكري الخارجي جعل الولاياتالمتحدة تنسحب من وجودها ذي الطابع العسكري في مناطق أكثر حيوية بالنسبة لمصالحها، فقد كان ذلك هو الدافع الرئيس للاتفاق الذي أبرمته في فبراير الماضي مع طالبان في أفغانستان وبموجبه تقلص عديد القوات الأميركية هناك من 13000 إلى 8600 حالياً، وبحلول مايو 2021 سيخرج آخر جندي أمريكي من أفغانستان. كما أن الولاياتالمتحدة تعتزم إيقاف الدعم العسكري الذي تقدمه لدول الساحل الأفريقي لمواجهة خطر التنظيمات الإرهابية الناشطة في المنطقة، وهناك تصريحات لوزير الدفاع الأميركي باحتمال سحب جميع الوجود العسكري الأميركي من أفريقيا نتيجة للتغير في استراتيجيات واهتمامات الولاياتالمتحدة في القارة. إذن، الخفض التدريجي لقوات اليوناميد يجب أن يٌفهم في هذا السياق الكبير، ويُضاف إلى ذلك طبعاً الرأي الوطني للحكومة السودانية الذي لا يرى سبباً في استمرار وجودها لانتفاء دواعي ذلك الوجود. نختم بالقول أن المفاوِض السوداني في مشاوراته مع الدولتين راعيتي القرار، بريطانيا وألمانيا، والدول الأخرى الأعضاء بمجلس الأمن، لم يدخل إلى التفاوض وهو في حال من الضعف الذي يرغمه على تقديم تنازلات تضر بالمصلحة الوطنية، فهو يتكئ على طلب طوعي تقدم به السودان من أجل إنشاء البعثة السياسية لتساعده في القضايا الضخمة للمرحلة الانتقالية. والطبيعة الطوعية للطلب تجعل مجلس الأمن يتعاطى مع الأمر بشكل تشاوري ومتوافق عليه. كما أن المفاوِض يستند على صورة حسنة للبلاد في الخارج وفرها التغيير الذي تم في أبريل 2019م، مدعومة برغبة من المجتمع الدولي في التعامل مع السودان بشكل إيجابي. وهي ذات العوامل التي ستمكّنه من العمل الدؤوب وبذل الجهد في مقاربة الإرث الثقيل لقرارات مجلس الأمن التي ورثتها الفترة الإنتقالية؛ ليس فيما يتعلق باليوناميد وحسب، بل وثلاثة قرارات أخرى من مجلس الأمن، ظلت تتجدد باستمرار، تحت الفصل السابع؛ بعثة يونسفا في أبيي، فريق الخبراء الخاص بعقوبات دارفور وإحالة السودان للمحكمة الجنائية الدولية، إلى جانب عدد كبير من القرارات تحت الفصل السادس. مستشار البعثة الدائمة للسودان لدى الأمم المتحدة