نواصل سلسلة تجاربنا التعليمية الفاشلة ونتناول هذه المرة الأنشطة اللاصفية التي يضعها التربيون في مرتبة واحدة مع الأنشطة الصفية ونأخذ منها كمثال تجربة "الدورات المدرسية القومية" ذلكم الحدث الموسمي الذي عتاد عليه أهل السودان طوال الثلاثة العقود الماضية والتي أهدرت فيها مليارات المليارات من الجنيهات برعاية مباشرة من رئيس الجمهورية دون أن تفضي إلى مخرجات تربوية حقيقية تُعضِّد الدور الذي يمكن أن تلعبه الأنشطة اللاصفية كشريك أصيل مع الأنشطة الصفية في صقل شخصية الطالب ورفده إلى الحياة العامة مواطناً صالحاً ينفع نفسه ووطنه ؛ فالدورات المدرسية القومية لم تكن من بنات أفكار "نظام الإنقاذ" فبداياتها الأولى كانت في العام "1974م " إبان العهد المايوي بمبادرة من الصحافة السودانية وصحيفة "الصحافة" تحديداً وقادها الصحافيان المرحوم/ أحمد محمد الحسن في عموده "باختصار" والمرحوم /حسن مختارفي عموده "من الركن" ، وتبنتها "السلطة المايوية" التي راقت لها الفكرة لكبح جماح الطلاب وشغلهم بنشاطٍ يلهيهم عن التظاهرات والمسيرات المناوئة لحكمها ، والبلاد وقتها تغلي بالنشاط السياسي العنيف الرافض لحكم مايو" طلاب الجامعات وطلاب الثانويات كانوا وقود هذه الاحتجاجات " ، وأقيمت الدورة المدرسية الأولى بالخرطوم وكانت قاصرة على كرة القدم وحدها وحققت نجاحاً باهراً ثم توالت بعدها الدورات القومية بعد أن أصبحت نشاطاً تربوياً أصيلاً يحظى بالدعم والمؤازرة من قمة هرم السلطة وأجهزتها التنفيذية ، والسياسية ؛ ولعل سر النجاح للدورات المدرسية في تلك الفترة يُعزى لقلة المدارس الثانوية وتمركُز غالبيتها في العاصمة الخرطوم ، وكانت المنافسات المختلفة تتم عن طريق منافسات حقيقية بين المدارس وتشرف عليها لجان من المعلمين والمختصين وليست انتقاء صوريا لطلاب الولايات على النحو الذي تُجرى به اليوم ،وكان من نتاج ذلك أن رفدت الدورات المدرسية إلى الساحة السودانية عدداً من المواهب والنجوم في المجالات الرياضية والإبداعية كافة , وعلى صعيد كرة القدم مثلاً خرّجت نجوما أصبحوا من أعمدة الفريق القومي نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ، (مصطفى النقر – المرحوم /سيماوي – المرحوم /الشيخ إدريس كباشي – المرحوم/ سامي عز الدين – الطاهر هواري – قلة الصغير – متوكل عبد السلام – جعفر عبد الرازق – سعد زكريا – عصام أبو الجاز – حموري الصغير – التاج محجوب- حمودة – دكتورعبود) وغيرهم من النجوم السواطع ، واستمرت الدورة المدرسية في نجاحاتها المتعددة وأصابتها العثرات في بعض الأعوام إما لقصور في التمويل أو تلكؤ في درجة الحماس لقيامها ثم ما لبث أن عاد طلاب الثانويات مجدداً إلى عادتهم القديمة وإلى موَّال التظاهرات والمناوشات وعكننة النظام الحاكم ما دعا الرئيس الراحل "النميري" إلى إيقافها إلى غير رجعة ثم أصابها الركوض وعدم الاهتمام في فترة "الديمقراطية الثالثة" ، وبعد قيام الإنقاذ قي العام "1989م" صدر قرار جمهوري في العام "1992م " بإنشاء إدارة للنشاط الطلابي تتبع لوزارة التربية والتعليم الاتحادية تُعنى بالأنشطة المدرسية في مؤسسات التعليم العام وتنظيم منافسات مدرسية على المستوى القومي تحت مظلة الدورات المدرسية القومية التي تقام كل عام في عاصمة من عواصمالولايات . لا أحد يشكك مطلقاً في الفوائد التربوية العظيمة التي يمكن أن تُجنى من إقامة مثل هذه الدورات على المستوى القومي ودورها في بناء شخصية الطلاب وإبراز إبداعاتهم وترسيخ مبادئ الوحدة الوطنية وإبراز السودان الوطن الأم كأمة واحدة حباها المولى عز وجل بهذا التنوع متى ما نأت عن الاستقطاب السياسي ووجدت الكوادر التربوية القادرة على ترجمة هذه الأهداف إلى حقيقة راسخة وممارسة تستحق الرعاية والاهتمام ، وتم التعامل معها بأنها أحد الجوانب الرئيسة للتربية المدرسية ومدى أهميتها لكونها تمثل جانباً مكملاً للنشاطات الصفية في تحقيق أهداف التربية المدرسية الشاملة وأنها جزءٌ لا يتجزأ منها ، ومع تغير الواقع ، وفي ظل التوسع الهائل الذي شهدته منظومة التعليم العام السوداني وزيادة عدد المدارس من بضع مدارس إلى آلاف المدارس الثانوية الحكومية والخاصة بات إحكام المنافسات القاعدية في الأنشطة التربوية كافة على مستوى الولايات أمراً يحتاج إلى تخطيط ، وكوادر تربوية متخصصة لتحكم إيقاعها وليست "كلفتة " وتعجل لتبرز القشور والكسب السياسي بمفهومه الضيق وفي وقت غير معلوم من أيام العام الدراسي ما أفقد الإخراج النهائي للدورات المدرسية التي أقيمت طوال الفترة السابقة مصداقيتها وحيويتها على خلاف ما كان يحدث في البدايات الأولى للدورات المدرسية لذلك لم تجد الدورات المدرسية القومية التي أقيمت طوال فترة الإنقاذ اهتماماً أو جاذبية ولم تترك بصمة واضحة على مسرح الحياة السودانية ؛ ثمة عوامل أخرى كثيرة أسهمت في فقدان الدورة المدرسية ذاك البريق القديم منها تأرجح إعلان قيام "الدورة المدرسية القومية " ،وعدم تحديد موعد قاطع ومعلوم في التقويم المدرسي لقيامها ورهن موعدها بتوفير التمويل اللازم لقيامها ؛ ما يستدعي قيامها في أي وقت من العام وهذا بدوره أعطى انطباعاً سالباً بتعجل قيامها والأمر المحوري الآخر عدم انتظام و مصداقية "المنافسات القاعدية" في المركز والولايات للطلاب المشاركين في المنافسات الختامية وهذا بدوره قاد للاختيار غير الحصيف للمشاركين على حساب المواهب الحقيقية التي لم تخضع للمنافسة والتدقيق وينسحب على ذلك قيامها في النصف الأخير من العام الدراسي متزامناً مع قرب انعقاد "امتحانات الشهادة الثانوية" وغياب الطلاب النابهين من المشاركة ؛ ما أفقدها جدواها وأهميتها ، و هزّ ثقة أولياء الأمور ببرامج وأنشطة "وزارة التربية والتعليم" الحريصين على نجاح أبنائهم بتجويد التحصيل الأكاديمي وهذا بدوره أدى إلى اختلال في العام الدراسي وانقطاع تام عن الدراسة مع توقع حدوث إصابات أو أمراض تحول دون انتظام الطلاب في الدراسة بعد قضاء الدورة والدخول في حمى الامتحانات وأيضاً من السلبيات عدم المشاركة الفاعلة لمؤسسات التعليم الخاص الذي باتت تشكل نسبة معتبرة من جملة النشاط التعليمي الممارس في المنظومة التعليمية ، وحصرها فقط على التعليم الحكومي ما أفقدها البعد الوطني الشامل، ومن الممارسات التي أفرزتها الدورات المدرسية التي أقيمت خلال الفترة السابقة أن معظم المشاركين في لجانها من خارج الإطار التربوي ومن أناس لا علاقة لهم بالتربية والتعليم ما أفقد الدورات المدرسية واحداً من أهم أهدافها بأن يكون المعلمون وقودها وشرايينها وهذا بدوره أدى لإفرازات سالبة في إطار التنافس المحموم بين الولايات للظفر بالكؤوس والألقاب بدخول لاعبين ومواهب من خارج الإطار المدرسي وغير مقيدين في المدارس بالإضافة إلى الحشد الطلابي الكثيف من البنين والبنات من ولايات السودان كافة ؛ و لا قبل للولاية لاستيعابهم وإكرام وفادتهم مع وجود الاحتكاكات والإفرازات السالبة وهم في هذه المرحلة العمرية الحرجة ، وكان بالإمكان أن يُقلص هذا العدد بنماذج محددة من المدارس الفائزة من الولايات في المنافسات المختلفة . عليه قياساً على هذه المعطيات وانطلاقا من قناعتنا الراسخة بأن النشاط اللاصفي نشاط لا غنًى عنه لأنه يمثل عصب العملية التربوية التعليمية ؛ لا بد من إجراء "تقويم شفيف " لهذه التجربة ووضع خارطة جديدة لموجهات الدورات المدرسية القادمة والرجوع إلى المنافسات القاعدية وتسخير هذه الميزانية الضخمة التي تذهب إلى جيوب اللصوص والسماسرة إلى المدارس بتفعيل أنشطتها اللاصفية أثناء العام الدراسي وإسنادها لمعلمين مختصين في هذا المجال مع قصر المنافسة على المدرسة الفائزة في الولاية وليس طلاب الولاية وهذا بدوره يلهب التنافس بين المدارس في المركز والولايات ويجعل المدارس والمؤسسات التعليمية في حالة حراك ونشاط دائمين طوال العام وهذا هو المغذى الحقيقي من إقامة هذه الدورات بدلاً من تخصيص الميزانيات الضخمة والصرف اللامحدود لحشد آلاف الطلاب في مشهد صوري ختامي بأجندته السياسية الواضحة، ولا يعدو أن يكون بالونة تنفخ ثم تتفرقع وجلبة وضوضاء ومالا سائبا وصرفا بذخيا دون أن نجني الثمن !!!. لنقول في خاتمة المطاف أنه لا غنًى لوزارة التربية والتعليم في المركز والولايات عن وجود إدارة للنشاط الطلابي أو الأنشطة المدرسية مناط بها وضع السياسات لهذا المرفق المهم الذي سبقت الإشارة إلى دوره المحوري في إثراء المنهج المدرسي وتحسين نتائج التربية المدرسية والتربية الوطنية الحقة بعد إعادة تقويم جميع المخرجات التي أفرزتها الدورات المدرسية القومية السابقة ثم تأطير دوره الجديد والاستفادة من الخبرات و الكوادر الفنية المؤهلة ، وتوجيه دفته من نشاط مصنوع للجلبة الإعلامية يتباهى بها الحاكم وهتيفت هتيفته وحارقو بخوره إلى نشاط تربوي وطني أصيل مغروس يسري في الجسد مسرى الدم في العروق وتسخير هذا المال المتدفق بلا حدود إلى نشاط أساسي ودائم في كل مدرسة مع وجود معلم متخصص ومتفرغ لأداء هذا الدور؛ أسوق هذا القول وفي يقيني أن هناك إشراقات وبرامج يمكن لو أحكمت حلقاتها أن تفضي إلى نتائج وعمل نافع ينتفع بخيره كل أبناء السودان من خلال تأسيس البنى التحتية لكثير من المرافق في الولايات التي تقام فيها الفعاليات الختامية للدورات المدرسية القومية خلافاً لفوضى التعاقدات التي أصبحت سمة ملازمة في أعمال الدورات السابقة ودخول شبكات متخصصة نذرت نفسها للاتجار والفساد والاستفادة القصوى من هذا المال المتدفق بلا حدود في مواسم الدورات دون الجودة والإتقان المطلوبين فكم من دورة أقيمت في ولاية من الولايات ومسارحها غير مكتملة الإنشاء وإستاداتها لم تؤهل أو تُصَن بالجودة المطلوبة ومدارسها لم يجرِ عليها أي تعديل ؛ بيد أن الفشل الأكبر الذي لازم قيام جميع الدورات المدرسية القومية السابقة لا يحتاج مني إلى كثير عناء فيكفي فقط أن تنظر إلى حال غالبية مدارسنا اليوم لتجدها خاوية على عروشها من أي نشاط لاصفي أثناء العام الدراسي ثم تنظر إلى" ثورة ديسمبر المجيدة " التي اقتلعت "النظام الإنقاذي" من جذوره فترى أن الذين "جابوا خبرها" ، و كانوا وريدها وشريانها … تروسها و"لساتكها" والذين دُهِسوا "بالتاتشرات" ومُزِّقت أجسادهم في ساحة الاعتصام العظيم هم الشباب ذوو الشعور المحلوقة "تربيعة" ، أو" نيمار" والذين هتفوا بملء فيهم " حرية سلام وعدالة " … أبناء سرحة الإنقاذ الذين تربوا في كنفِها" واجتهد منظروها وحسبوا أنهم يحسنون صناعة أجيال تدين لهم بالولاء المطلق" !!" فضل سعيهم ؛ وهذا لعمري يمثل الفشل الأكبر لتكون المحصلة الأخيرة ؛ لا الدورة المدرسية القومية "المطبوخة" أفلحت في تحقيق مرامي الإنقاذ و"مشروعها الحضاري" المزعوم ولا هي نجحت في بناء مشروع وطني تربوي راسخ يعم فيضه كل أبناء الوطن والذي لأجله تنبع أهمية النشاط الطلابي "وكأنك يا أبأ زيد بعد كل هذا العك والعناء واللت والعجن و"الدغمسة" لا رحت ولا غزيت" !! والله المستعان