التاريخ ذاكرة الأمة، لذا حينما استهدف الفاشيون الجدد السودان تعمدوا هتك التاريخ لاستئصال ذاكرة الأمة، وجعلوا من بداية السودان تاريخ انقلابهم المشؤوم. تاريخ الأمة السودانية يقول إن آخر رئيس وزراء سوداني منتخب هو زعيم طائفة الأنصار وحزب الأمة الصادق المهدي.. لكن الاجيال الجديدة لم تر من الصادق سوى ما كرسه إعلام النظام البائد من تشويه متعمد بسوء قصد ونية، في وقت كان للإمام صولات وجولات في مقارعة الشمولية التي استهدفته فلم يتسبق في محاربتها شيئا. آخر رئيس وزراء منتخب يصفه الكثيرون براعي الديمقراطية في السودان بحكم ما شهده عهده من حرية إعلامية استغله المتطفلون للهتلك بتطور الديمقراطية الثالثة، وعاثوا فسادا بتسميم الحياة السياسية، مصورين الحكم الحزبي باعتباره جحيم الله في الأرض وهم يطبخون بليل سيناريوهات تفشيل الحكومة المدنية الديمقراطية برئاسة رئيس الوزراء المهدي. آخر رئيس وزراء منتخب، له من الآراء والمواقف ما يجمع المتناقضات، ويفرض على الآخر ثنائية (ال مع وال ضد) فيختلف مع الصادق الكثيرون ويقف معه آخرون، وبين هذا وذاك يظل الصادق المهدي جديرا بالاحترام، فذاكرة الأمة تسجله في تاريخها كآخر رئيس وزراء منتخب ديمقراطيا، رضي من رضي وأبى من أبى، فلم يستطع الإطاحة به إلا تحالف الإسلاميون بمعية العسكريين في تواطؤ قذر سدد ثمنه السودان. مواقف الإمام الاخيرة في الحرية والتغيير، وقبلها في بدايات الحراك اثارت عليه غضب الكثير من الشباب، بل واعتبره البعض تيرمومترا لقياس أماكن وقوفهم في الكثير من القضايا، ومحددا لقراراتهم، وربما هو عشق خفي ظل التعبير عنه قاصرا على العناد والمعاكسة. إعلام الحزب التاريخي يبدو عاجزا عن ايجاد المعادلة المفقودة بين إبراز أفكار وتصريحات الصادق المهدي التي تأتي في سياق رؤيته ك رجل دولة وبين ما يتخذه ك رجل حزب للرأي العام، وبينهما أمور متشابهات.. فهذه الحلقة المفقودة تلك ربما هي ما ساهم في خلق سوء التفاهم العريض والموسع. حاليا زعيم حزب الأمة في محنته الصحية الخاصة، لكن كثيرين يرون أن المحنة ليست شخصية بل هي محنة وطنية خالصة، خصوصا وأن السودان ظل ينزف خلال العقد الأخير العديد من الرموز الوطنية التي تظل المرحلة الحالية في اشد الحاجة إلى وجودهم، فخرج من المشهد الحكيم محمد ابراهيم نقد، وقبله بدر الدين مدثر وفاروق كدودة وفاروق زكريا ولاحقا التيجاني الطيب، قبل أن تنعي الأمة السودانية المخضرم فاروق ابو عيسى ورفيقه منصور خالد وغيرهم كثر رحمهم الله. غياب الإمام هذه المرة بفعل المرض، يترك فراغا عريضا في توقيت هو الأصعب على السودان والسودانيين بحكم ما تضج به الساحة من ملفات وقضايا متشابكة، تحتاج إلى البرودة والحكمة وسعة الافق.. فالرجل غض النظر عن الاختلاف الدائم معه، ظل ممسكا بعصا الوفاق الوطني من منتصفها، يبحث عن حلول ابعد ما تكون عن العنف سواء فعلا أو قولا، محاولا في اطروحاته دوما تجنيب السودان ويلات المواجهة الداخلية فيما بينهم، لذا فالسودان احوج ما يكون إلى المهدي ولوجوده وربما روشتاته أو بعضا منها فهو اكثر الموجودين اليوم في معسكر وخندق الثورة لها تجربة في ادارة الدولة والحكم، وتجاوزه بأي حال يعد ضربا من الغباء السياسي والمراهقة الثورية.. مخاوف عدة تحاصر غياب الإمام هذه المرة (شفاه الله)،.. بحكم ما سبقه من رفض مبدئي لسيناريو التطبيع والتركيع الذي ربما تخوضه حكومة الانتقال مجبرة ويخوضه العسكر بفعل المساومة، فيكون السودان قاب قوسين أو ادنى من ذل ومهانة في اسخف عمليات الابتزاز التاريخي لشعب ادهش الناس ببسالة ابنائه وشجاعة مناضليه وضعف وهوان ساسته.. الصادق المهدي حاليا يعد احدى الثروات القومية غض النظر عن الاختلاف الدائم معه ومواقفه، لذا فإن ابسط قواعد العدالة والوجدان السليم أن يصدر تقرير رسمي من مؤسسات الدولة السودانية يقف على مراحل علاجه والتأكد من الاجراءات، ف تل ابيب لا ترضى ب لا كإجابة على سؤال التطبيع مهما كان الثمن..