جاء في الأثر (إنَ البلاءَ مُوَكَّلٌ بالمَنْطِق) وفي قول آخر(إنَ البلاءَ موكلٌ بالكلام) هذا، وإن لم يرد في ذلك حديثٌ صحيحٌ، فإن واقع حياة الناس دل على وقوع ذلك. وما زال أعلامُ هذه الأمة قديمًا وحديثًا، يذكرون هذا المعنى ويُقرونه، وله بعضُ المستند من ظواهر النصوص الشرعية، وله كذلك مستندٌ من التجربة والمشاهدة. ذلك أنه ربما يتمنى المرءُ شيئاً فيه ضرره،أو يدعو بشيءٍ مكروه على نفسه، فقد تتحقق الأمنية، وقد تُستجاب الدعوة، فيكون في ذلك خسرانه وندمه، ولذا حُضَّ الناسُ على ألا يدعو أحدٌ على أنفسه بمكروه، حتى لا يصادف ساعة إجابةٍ فيقع ذلك الذي دعابه.. ولذا يقول الشاعر العربي: لا تنطقنَ بما كِرهتَ فربما نطقَ اللسانُ بحادثِ فيكون وقال آخر في المعنى نفسه: لا تمزحنَّ بما كرهتَ فربما ضربَ المِزاحُ عليكَ بالتحقيقِ ولذا يقال إنه ينبغي على المسلم أن يعوِّد لسانه على قول الخير دائماً. وفي ذلك، قالوا إن ملك ليبيا السابق إدريس السنوسي، سمع ذات يوم أُناساً يهتفون فسأل عما يقولون، فقيل له إنهم يقولون ( إبليس ولا إدريس) فقال اللهم أجبْ، فاستجاب الله دعوة أولئك الداعين، فأبدلهم القذافي بالسنوسي، فجرى لهم منه ما هو معلومٌ للناس جميعاً في حياته، ولا تزال آثاره جارية حتى يوم الناس هذا عليهم بعد مقتله. وعندنا في السودان، تمنى أهلُ الكيد السياسي على ربهم الجوعَ، بشعارٍ صاغوا كلماته، وأخذ يهتف به صبيانُهم وصباياهم وهو:(الجوع ولا الكيزان) فاستُجيب دعاؤهم كما يُرى، فأبدلهم اللهُ الجوعَ بالكيزان. فقد ذهب الكيزانُ وحل الجوعُ بالبلاد. ليس ذلك انتصاراً للكيزان، فقد قضى سبحانه وتعالى بزوال سلطانهم قبل انطلاق هذه الدعوة، وإنما ذلك استجابةٌ لأسوأ ما يدعو به أُناسٌ على أنفسهم وهو الجوعُ. فقد بات العالم يرى أثره فينا في أبشع صوره، لتتبرع بسببه علينا هذه الأمة أو تلك، بشيءٍ من القمح أو طحينه، اسعافاً لنا في بلد درس أولئك المتبرعون عنه في مدارسهم ذات يوم، بأنه سلة غذاء العالم العربي. فقد رأى العالم منا صفوفاً متطاولة، تسعى إلى الحصول على رغيف الخبز من مظانه، التي بات التبكيرُ إليها مع انفلاقِ الفجر، قبل التبكير إلى المساجد، وبات الحصول عليه من غالي الأمنيات. طالت صفوفه، ونقص وزنه، وغلا ثمنه، وفي كثير من الأحيان اختفى أثره. وفي أحيان كثيرة، قد يعود المبكرون إلى صفوفه منه بخفي حنين لنفاذ كمياته. وكم بلغ طول صفوفِ الخبزِ بالنفوس ضيقاً، أدى بها إلى ارتكاب جرائم قتل تناقلتها الأخبار، وعملياتِ سرقةِ نقودِ المنتظمين في تلك الصفوف للحصول عليه، ليعودوا إلى أهليهم بلا خبز وبلا نقود. ولكم شهدتِ الخرطوم وغيرُها من مدن البلاد، مظاهراتٍ الجوعى وهم ينددون بالقائمين على الأمر، بعد أن وعدوهم بالأمس بتدفق سيل الهبات والمعونات، التي ستضيق بها مواعينُ الاستيعاب، مما يوفر ضروريات معايش الناس وكمالياتهم، فإذا بضرورية تلك الضروريات وهو رغيف الخبز، يقتتل على أولوية صفوفه، من أمضَّهم الجوعُ الذي تمناه على ربه نفرٌ منهم. وأنا أعد هذا المقال؛ أمامي أخبارُ مظاهرات للطلبة في مدينتين من مدن البلاد، واحدة في غربها والأخرى في شمالها، وعلى بعد المسافات بين الجانبين، وحَّد الجوعُ بين هتافهما، وهما يطالبان ولاة الأمر بتوفير(العيش). ولا أزال أذكر أنني كنتُ ذات يوم أقرأ مقالاً في إحدى الصحف، لكاتب، ينتقد فيه الحكومة لتقصيرها عن توفير الخبز، فانبرى إليه أحد الذين يدافعون عن الحكومة، سواء أصابت أو أخطأت، في صيغة سؤالٍ استنكاريٍ بقوله؛ هل نحنا عندما خرجنا في الثورة خرجنا للخبز أو للطماطم؟ إننا خرجنا للحرية. وقد رد عليه أحدهم بما كفاه الاسترسال في قوله.وكان ذلك قبل أن تبلغ أزمة الخبز ما بلغته الآن. ولعل ذلك الذي يقول إنه خرج من أجل الحرية لا الخبز، قد تغلب الآن على الجوع في أسرته، بلُقيماتِ حريةٍ يسد بها رمق أفرادها، بحيث كلما شكا منهم أحدٌ من الجوع، ألقمه شيئاً من الحرية يتبلَّغ به، فيسكن جوعه، فيكون بذلك قد كفل استغناءَ أسرته بالحرية عن الخبز، وأصبح أفرادها في حل من خوض معتركه. مما لا شك فيه أن الجوع والجريمة صنوان، ولا بد أن ما تشهده مدن بلادنا من غياب الأمن، و تزايد وتيرة الجرائم ليلا ونهارا، من عمليات نهبٍ في شوارعها، وسلب ٍلأموال الناس بتهديدهم بالسلاح، وخطف لموبايلاتٍ من أصحابها، وانتزاع لحقائب النساء عنوة، هو من تردي أحوال معايش الناس، وعلى رأس ذلك الجوعُ، الذي يصفه العرُف الشعبي عندنا بال(كافر) فيُضطر صاحبُه إلى ارتكاب ما بوسعه ارتكابه من جرائم. وقبيل شروعي في كتابة هذا المقال، قرأتُ في صحفنا عناوينَ جرائمَ وقعت في مدينة الخرطوم وهي: تزايد جرائم النهب المسلح على الصيدليات/غليان بشارع الستين بسبب مقتل الطالب أمين من قبل اللصوص/ مسلحون يعتدون على شرطي ويطلقون الرصاص بوسط الخرطوم/ قتلته عصابة داخل منزله أمس وضربوا شقيقته ووالدته بعد تخديرها/ مجهول يطلق النار على صحفي. هذا غيضٌ من فيض، من جرائم في مدينة كانت في يوم من الأيام من آمن مدن الدنيا. وهذه الجرائم بتنوعها، تسبب الخوف في نفوس الناس، حيث لا يمشون كالأمس في طرقاتها آمنين مطمئنين. والجوعُ والجريمةُ يتلازمان في أغلب الأحيان، وإذا تلازم الجوعُ والجريمة، التي هي في كثير من الأحيان نتيجةٌ له، فقد الناسُ أهم عاملين من عوامل السعادة، وهما الإطعامُ والأمن، ولذا امتنَّ الله سبحانه وتعالى على قريش ربهما فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4 وعلى صورة تمني ساستنا الجوعَ على اللهِ لأنفسهم، كيداً لخصومهم في السياسة، وقد تحقق ِلهم ذلك، أخبرنا القرآنُ بحادثاتٍ مماثلة لأمم سابقة، فقد أخبرنا منها بما وقع لأهل سبأ، حين كفروا بما كانوا فيه من أمن وطمأنينة. من ذلك قرى آمنة متصلة ببعضها بعضاً، من اليمن إلى الشام، يذهبون ويعودون آمنين مطمئنين، وهم في رغد من عيشهم، فملوا نعمةَ تقارب الديار وأمنها، فطلبوا من ربهم تباعد تلك القرى، ليقطعوا الفيافي والقفار كبقية الناس، ليأخذوا معهم زادهم وسلاحهم، وغير ذلك من حاجات المسافر في الأرض المهلكة. يقول القرآن في ذلك: "فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور".وسننُ الله في كونه لا تتبدل ولا تتغير بتعاقب القرون، من أجل هذه الأمة أو تلك. وذكر الله تعالى في موضع آخر عقابه قوما بالجوع والخوف معاً، نتيجة كفران نعمته التي أنعمها عليهم فقال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. فالعقاب الذي أنزله سبحانه وتعالى بتلك القرية لكفرها بأنعمه هو ثنائيُ الجوعِ والخوفِ، أمرٌ لنا منه نصيبٌ الآن، فنسأله الهداية والرشد.