بعد عامين من اندلاع المظاهرات وسقوط الإنقاذ بضربة قاضية منذ ال6 من أبريل وليس 11 أبريل، وبعد عام كامل من تشكيل حكومة الثورة وصلنا إلى طريق مسدود كله حسرات وحيرة، نستفهم الفراغ حول جدوى المسار الثوري، ومنذ خروج السيد حمدوك للناس بان الحاضنة العزيزة لم تسلمه برنامج الانتقالية، ولذلك هو في حيرة من أمره. تلفت بعضنا كيف ستجري الأمور؟، وكان حريا برئيس الوزراء حمدوك الانفراد بالحكم وإخراج ورقة من جيبه وكتابة رؤيته وتنفيذها بسرعة، ما دام الحاضنة نائمة للسهر والحمى، وربما دواعي العمل الدؤوب في شؤون أخرى. قبيل مسيرات الغضب لتصحيح الأوضاع في 19 ديسمبر الكل يغني بالدموع (أين كنا من العشم وكيف أصبحنا من البؤس؟) فالحاضنة التي أنجزت تجميع كتلة سياسية تاريخية على هدى الحد الأدنى حتى خيل للناس انها كتلة صنيعة عمل وطني حقيقي قدرت فأحست التقدير للدخول للانتخابات القادمة بكتلة متماسكة لنحصد ثمار العواطف الثورية بمزيد من الوحدة وتعديل الميدان السياسي للتباري فيه بحزبين كبيرين على أقل تقدير. بكل أسف انتهت الأحلام الوردية بحالة تمزق سريع وبلا أسباب غير التحديق نحو الكرسي ونسيان حجة الثورة في المبادئ الأساسية بصيانة الانتقالية من الأغراض والأنانية وتجهيز الملعب بعد تنظيفه من مصائب الإنقاذ في كل شبر من أرض الوطن المغطاة بالفساد والعنصرية والمؤسسات الهشة والدولة العميقة. ونحن نحب تلك الحرية وذلك التغيير، كذبنا الثورة المضادة وهي تصدر القلق والتوتر للفترة والحكومة والحاضنة وتخلق الأزمات بجيوش من الإعلام ومن داخل دواوين الحكومة ومن دول الجيران أحيانا، ولكن هذا لا يكفي للعبور بالفترة من تحدياتها الماثلة إلى الأحلام المتوقفة. وطلبنا من حكومتنا ضرب الخصوم في كل مكان، وتفعيل العمل الجاد احتراما لجماهير الثورة والشهداء. وها هي الذكرى الثانية لثورة ديسمبر وليس كل شيء هادئ في الميدان الشرقي، بل الشارع الثوري حزين، يبحث عن زخم تلك اللحظات الوطنية وعن أناشيد تلك الأيام الخالدة وكيف توحد التنوع السوداني في أجمل ايام عمره، لوحة زاهية وجمال فريد، عطبرة والفاشر يغنيان لحنا واحدا التحرر حقيقي في زمن مشحون بالترقي العام والنادر وكما يقول أهل الندم (هيهات). لم نتوقع ضبط اول حالة فساد من مدير مكتب وزير يأمر إدارات وزارته التبرع لشقيقة الوزير الفلاني، كانت صدمة تحمل الكثير والمثير وانه ما أشبه الليلة بالبارحة وان الفساد لا وطن له ولا قبيلة له، سيقدل أينما كان الضمير واهنا والقوانين معطلة. ولأن التغيير طويل صبرنا على تواضع البدايات، واستقبلنا قصورا يتقدم في يوميات حكومة الثورة حتى عز علينا "الغاز والخبز والوقود"، واستمرت الصفوف من آخر أيام الإنقاذ، وتأخرت العدالة الانتقالية لدرجة بعيدة، حتى اللحظة رموز النظام بلا محاكمات والمخلوع تمت محاكمته بتهمة لا تناسبه وهو المسؤول الأول عن ضياع 30 سنة من أعمار السودانيين سدى في مغالطات لا غرار لها من حيث العبط والفراغ والجبروت، هناك ضحايا من كل نوع وانتهاكات واضحة وانقلاب عاش حتى عمر الشيب وتفاصيل مجنونة بفساد لا مثيل له، وكان دوما يتدخل الطرف الثالث ليفسد الحكم من أوتكاي إلى هروب جماعي عن طريق المطار واختفاء رموز رفيعة ظلوا أحرارا في بيوتهم بعد استمرار عام من عمر الحكومة الانتقالية، ثمة أزمة في النيابات وحتى لجنة البطش طالتها السهام ونحن معها بكل اخطائها حتى تنجز العمل المهم توقيف اولئك، نعم أحرار يمدون لسانهم للمطالب الثورية ويخرجون في مظاهرات وهم مطلوبون للعدالة. وصلت حكومة العاجزين لحالة غريبة من العجز حينما رفعت الدعم عن المحروقات وجففت ايضا محطات الوقود من بنزين وجازولين السوق السوداء، وفي الميناء عجب عجاب تكدس مصنوع وأوامر بخلق أزمة انسياب البترول ليخرج وزير الطاقة بحديث مخجل انهم تفاجأوا بالزيادة في سعر المحروقات، وان وزارة المالية لم تخبرهم ولم تشاورهم. وعجزت إدارة المواصلات في التقدم بخطوة واحدة احتراما للتغيير وشهدنا بنات ونساء السودان متكدسات فوق دفارات نقل البضائع و(القندرانات) في محاولات مستمرة للوصول لبيوتهم ومازال الشعب ينتظر الحكومة، يرفض كل تحريض من الثورة المضادة المنظمة والمدربة صابرا محتسبا. هذه حكومة برجوزاية بامتياز وصل بنا تكنقراطها إلى درك الجوع وانفلات الأمن، حكومة طرشاء لا تسمع صراخ ملأ الأفق من الضحايا الجدد بدلا من التتويج والاحتفالات صدمنا في أعز مطالبنا، فالعدالة في حق الشهداء وإنجاز العقاب حول من فض الاعتصام والتجارة في القضايا بلغة لا تشبه التغيير، والثورة والأرواح الطاهرة التي ذهبت في سبيل تاج الديمقراطية الذي بدأ متباعدا تطول لياليه ونحن في خطى متأخرة نعجز الاجابة على سؤال بسيط وعن طريق القانون والقضاء "من فض الاعتصام؟" فلا أحد يجيب. صدمنا في إيقاع حكومتنا وهي تصحو عند العاشرة صباحا واندهشنا لخبرات التكنقراط كانوا نبلاء ولكنهم لم يكونوا رجال دولة أبدا، وهربنا من شرح الظاهرة السياسية المتداعية من حكومتنا، هربنا من أسئلة صعبة على شاكلة، هل هؤلاء لا يعرفون السودان؟، هربنا من الأخطاء الفادحة، لماذا القراي في المناهج؟ مع احترامنا المؤكد له، لماذا القراي بالتحديد؟، ليوفر لهم حجة وبيانا مناسبا اننا ضد الدين، لماذا ظهر فيلم (ستموت في العشرين؟) ما في أدنى شك، كان بديعا وذكيا وخلاقا، لكنه من حيث التوقيت كان حجة علينا، كلفنا خصومات وأعداء كانوا في صفنا ومعنا، وأين الكوادر المبدئية؟. بدلا من الظهور في الريف مع الناس العاديين وسط الحقول تزرع معهم وتنتج، وقف تجمع المهنيين في محطة البداية، وتشظى، وتفرقت الحرية والتغيير مع درس قواعد التنوين والضمة، وبقيت حسرتنا بلا حدود. وحينما ظهرت فتاة بلبسة أفرنجية في قاعة المؤتمرات الصحفية، توزع الفرص لرئيس الوزراء الجديد، فرحنا بثورتنا، تقدم لنا البنت التي كتبها محجوب شريف والقدال وحميد في أغنياتنا الهاربة أيام البؤس والاستبداد (تبتبا تبتبا باكر تعرف تقرأ وتكتب). ثم غابت كنداكات مثل صائدة البمبان رفقة ونوبية، ثورية السكة حديد، كن مظفرات بالاعتقالات والجروح، فهل ضعف الطالب والمطلوب؟ أنها بالفعل مفارقات تدمي القلوب. أحببنا رئيس الوزراء أكثر من اللازم، فرشنا له الحرير ليقدل كما يشاء بزخم ثوري وشارع يحميه، بينما المطلوب مجرد أمنيات قريبة وترتيب قليل يرضي الشارع والجماهير، وكان حمدوك بالفعل يناسب الثورة، رجل محترم، نبله لا يخطئ العين، ومع الايام اتفقنا مع السلفيين لبعض الوقت، حول فحوى القباب، كان هادئا في زمن الشرعية الثورية، اختار وزيرة خارجية متواضعة بحجة مخاطبة الغرب العريض، وأصر على وزراء لا حول لهم ولا قوة وفهمنا الدرس، المنهج والمدرسة والمعلم، وكان لابد من الفشل الذريع أصدق حصاد كمثل هذه الأيام، حتى ظهرت في السيادي حكايات أخرى ليتهم أتوا بالدكتورة (شيراز) بدلا من الوالدة المحترمة عائشة وهي توفر سخرية يومية للثورة المضادة، ثم نيكولا التي لعبت أدوارا مدهشة عكس تيار الثورة. وكان مدني عباس مدني قصة أخرى مفيدة في معنى المفاجآت غير السارة، حينما كان يخاطب ساحة الحرية مساء الفرح بالتوقيع على تشكيل الحكومة ويا ليتهم ما اتفقوا، كان حماس مدني يملأ كل الأفق، لكنه ظهر مع الواعظين في ثياب حكومة العاجزين مع إثبات نبلها، حكومة عاجزة شراء محروقاتها بالسوق الحر وعاجزة فتح كتب القانون لمحاكمة رموز كانت تجهز أكفانها إيمانا واحتسابا ها هي تفكر في العودة بعد شراب القهوة. فهل هؤلاء هم الغرباء فعلا حينما يحكمون؟، بينما تأتي الفوازير الحقيقية من إعلان الحرية والتغيير حضورها مسيرات ال19 ديسمبر هاربة من المسؤولية والحساب.