بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انهيار الاقتصاد السوداني … فهل يعقلون؟
نشر في السوداني يوم 02 - 02 - 2021

حسب مقولة شهيرة للمافيا الألمانية، إذا لم يتوفر الخبز للفقراء، فلن يتوفر الأمن للأغنياء. وفي كتابها حول صناعة الفقر العالمي، كتبت تيريسا هايتر أنه لولا اعتماد الاتحاد السوفيتي على مشترياته من القمح الأمريكي لما وقعت اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر واسرائيل. هذه الاستشهادات، وأمثالها في الأدبيات، تعكس الدور السياسي الذي يلعبه الغذاء في كل الاقتصادات.
قبل الخوض في موضوع هذا المقال، قد يكون من المفيد التمييز بين مفهوم الدورة الاقتصادية (أو دورة الأعمال) ومفهوم الانهيار الاقتصادي. الدورة الاقتصادية هي حالة تذبذب في الناتج القومي للاقتصاد خلال فترة زمنية قد تمتد إلى سنتين. وكما أشار آدم سميث في كتابه المعروف "ثروة الأمم"، تحدث هذه التذبذبات بين الفينة والأخرى نتيجة تصحيح الأسواق من تلقاء نفسها لحالة عدم التوازن دون تدخل الحكومة. تتضمن الدورة الاقتصادية الكاملة أربع مراحل يمر بها الاقتصاد، تشمل حالة ركود (انكماش) اقتصادي يتحرك على إثره الاقتصاد إلى نقطة دنيا (منخفض)، ثم حالة انتعاش (توسع) يتحرك على إثره الاقتصاد إلى نقطة ذروة، ثم حالة انكماش تؤدى بالاقتصاد إلى نقطة دنيا مرة أخرى لتكتمل بذلك الدورة الاقتصادية. وتدور الدورة الاقتصادية حول اتجاه النمو الاقتصادي للمدى الطويل، وتستمر لفترة سنتين قد تزيد قليلا.
الانهيار الاقتصادي هو حدث اقتصادي غير عادي. على خلاف الدورة الاقتصادية، ليست هنالك خطوط دقيقة متفق عليها للتعرف على الانهيار الاقتصادي، وإنما هنالك حزمة من المعايير يمكن استخدامها للتعرف عليه، ويمكن أن تختلف من اقتصاد إلى آخر. تتمثل المعايير في أعراض، وأسباب، وتداعيات الانهيار الاقتصادي. هذا، إصافة إلى أن الانهيار الاقتصادي يمتد لفترة طويلة تزيد عن الثلاث سنوات مقارنة بفترة سنتين للركود الاقتصادي. ولكل انهيار اقتصادي ظروفه وعوامله، بالرغم من أن بعضها قد تكون مشتركة بين الدول، أو تكون مختلطة بعوامل اقتصادية كلية. وكما أشار كينز عند حدوث الكساد العظيم، فإن الانهيار الاقتصادي قد يحدث أيضا نتيجة لسياسات اقتصادية كارثية، أو لتجاهل و تباطؤ الحكمة في التدخل عند ظهور مؤشرات للانهيار.
وبالرغم من أن الانهيار الاقتصادي ليس بالضرورة أن يكون جزءا من الدورة الاقتصادية المعروفة، لكنه يمكن أن يحدث عند أي نقطة أو مرحلة منها إذا سبقته أحداث أو إشارات تنذر بهشاشة الاقتصاد، وإذا ظل الاقتصاد يشهد سلسلة من الظروف الرديئة المستمرة لفترة طويلة. تبدأ تلك السلسلة بالركود الحاد الطويل الذي يتسم بمعدلات عالية من الافلاس والبطالة (كما حدث خلال الكساد العظيم في الثلاثينيات من القرن الماضي)، وصولا إلى انهيار وتعطل الأنشطة التجارية العادية بسبب التضخم المفرط (كما حدث في الأرجنتين خلال الفترة 1999-2002)، أو انقطاع خدمات المنافع العامة كالمياه والكهرباء، أو تفشى الأوبئة، أو حتى الارتفاع الكبير في معدل الوفيات ونقصان حجم السكان لأسباب اقتصادية أو سياسية (كما حدث في بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتى سابقا في الثمانينيات من القرن الماضي). خلاصة الأمر، يحدث الانهيار الاقتصادي على نحو نموذجي بعد فترة أزمات اقتصادية يشهدها الاقتصاد بصورة مستمرة، وقد ينتهى بعد عدد من السنوات اعتمادا على حدة الانهيار، كما يمكن أن يحدث بسرعة كبيرة نتيجة أحداث مفاجئة (كانتشار وباء كورونا والتوقف غير المسبوق للنشاط الاقتصادي العالمي). وفي أغلب الأحيان تصاحب الانهيار الاقتصادي الفوضى والهرج والمرج وعدم الاستقرار الاجتماعي، إضافة إلى انهيار القانون والنظام العام مصحوبا بانتشار الجريمة كالسرقة والاحتيال والفساد والعنف والقتل وانحدار الأخلاق .
هنالك العديد من الأمثلة للانهيارات الاقتصادية التي شهدتها العديد من الدول. ويعتبر الكساد العظيم أحد أفضل الأمثلة للانهيارات الاقتصادية الموثقة. فقد شهد العقد الثلاثين من القرن الماضى انهيارا اقتصاديا عالميا هو الأكثر حدة منذ بداية الثورة الصناعية. بدأ الكساد في الولايات المتحدة الأمريكية في صيف العام 1929م وتبعه انهيار سوق الأسهم في أكتوبر من نفس العام، حيث استمر الانخفاض في أسعار الأسهم لتصل إلى أدنى مستوى لها في يوليو 1932. في الربع الأول من العام 1933 انهار النظام المصرفي وكذلك أسعار الأصول. توقف الإقراض المصرفي، وأصبحت ربع القوة العاملة متبطلة، كما تدهور الناتج المحلي الحقيقي للفرد ليصبح أقل من قيمته للعام 1929 بنسبة 29 في المائة. بدأ الاقتصاد التعافي بسرعة، إلا أن الركود الذي حدث في الفترة 1937-1938 قد ابطأ من سرعة التعافي، الذي اكتمل في العام 1941 لتدخل البلاد في الحرب العالمية الثانية .
الانهيارات الاقتصادية التي شهدتها كل من اليونان (2015) والأرجنتين (2017) كانت أسبابها تدور حول مسائل تتعلق بالتنصل عن التزامها نحو كمية كبيرة من الديون السيادية، مما أدى إلى شغب شعبي للمتبطلين، وتدهور العملة، ومساعدات اسعافية دولية، وإصلاح الحكومة. واستمر الانهيار الاقتصادي في الأرجنتين لفترة أربع سنوات. ومن الأمثلة المعاصرة للانهيار الاقتصادي ما شهدته فنزويلا من انحدار في الناتج القومي منذ العام 2014 بمعدل 40 في المائة نتيجة انخفاض أسعار النفط أدت إلى انهيار اقتصادي، وشح في السلع الأساسية، وتضخم مفرط في العام 2017. وقد صاحب ذلك الانهيار ارتفاع كبير في معدل الجريمة والفساد والفقر والجوع، وهروب العديد من الفنزويليين إلى البلاد المجاورة. ويتوقع أن يكون وباء فيروس كورونا الذي اجتاح العالم في العام 2019، بدءا من الصين، مثالا آخر للصدمات الخارجية وسببا مرشحا لإحداث انهيار اقتصادي عالمي. إلا أن تصنيف ذلك الوباء كسبب لانهيار اقتصادي عالمي متوقع يظل أمرا سابقا لأوانه، إذ أن الأثر النهائي لذلك الوباء ما زال مرهونا بما سيحدث في المستقبل القريب.
بالرغم من تعدد الدول التي شهدت انهيارات اقتصادية، إلا أن الأسباب الحقيقية لتلك الظاهرة ما زالت محل جدل كبير بين الاقتصاديين. على سبيل المثال، أشار بيرنانكي (Bernanke, 1995) إلى صعوبة التعرف على أسباب محددة لتلك الظاهرة في ظل تعدد العوامل التي تسهم فيها بدرجات متفاوتة. لذلك، ظل فهم الكساد العظيم يمثل الضالة المقدسة المنشودة لعلم الاقتصاد الكلي.
ومهما يكن من أمر، فقد كان للانهيارات الاقتصادية السابقة أسبابها المالية وكذلك السياسية. وتعتبر العجوزات المتواصلة للموازنة العامة والميزان التجاري، والتضخم المفرط الذي تتسبب فيه الحكومة عادة (من خلال الاستدانة من الجهاز المصرفي وزيادة عرض النقود)، ونضوب الموارد المهمة، والثورات، والحروب، والأوبئة من بين أهم مسببات الانهيار الاقتصادي.
فى بعض الحالات، يتسبب الحصار والحظر والعقوبات الاقتصادية في حرمان ومشقة حادة للشعوب المحاصرة، بدرجة يمكن اعتبارها انهيارا اقتصاديا. على سبيل المثال، تسبب القانون الأمريكي للعام 1807م الذي بموجبه منعت الولايات المتحدة التجارة الخارجية مع الدول الأوروبية المتحاربة في ركود حاد في تلك الدول، بخاصة تلك التي تعتمد بدرجة كبيرة على التجارة الخارجية وبصورة أكبر أيضا على الدول التي تعتمد على صناعة السفن والمدن التي تأوى الموانئ البحرية. كذلك، تسبب الحصار على ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى في المجاعة لمئات الآلاف من الألمان، لكنها لم تؤد إلى انهيار اقتصادي، على الأقل إلى حين حدوث الإضطراب السياسي الكبير ومن بعده انفجار التضخم المفرط في ألمانيا.
وفى ظل الانهيار الاقتصادي والتضخم المفرط، تصبح النقود عديمة القيمة. عليه، يميل الأفراد إلى الاحتفاظ بأموالهم خلال فترة الأزمات والانهيار الاقتصادي في شكل ذهب أو عملات أجنبية قابلة للتحويل. نفس الأمر ينطبق على التزامات الحكومة نحو الديون، بخاصة السندات الحكومية التي قد تعاد هيكلتها أو تصبح هي الأخرى عديمة القيمة. وبسبب التضخم المفرط وما يصاحبه من تدهور في قيمة العملة الوطنية، تتباطأ المؤسسات في عمليات الانتاج بسبب حالة عدم اليقين التي تصبح سائدة في الاقتصاد، بينما تصبح الدولرة (استخدام العملات الأجنبية) هي الطريقة الشائعة لتسوية المعاملات الاقتصادية والتجارية.
ويؤدى التضخم المفرط إلى تخزين السلع الأساسية خوفا من ارتفاع أسعارها، أو تحوطا من اختفائها أو نفادها، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى وقوع فوضى في الأسواق. في حالة بعض الانهيارات الاقنصادية، تقوم المؤسسات بدفع أجور العاملين يوميا، ويقوم هؤلاء باستخدامها مباشرة في شراء احتياجاتهم الأساسية بصورة فورية. في أغلب الأحيان تصبح رفوف المحال التجارية فارغة، كما يلجأ البائسون (فاقدو الأمل) إلى بيع ممتلكاتهم لشراء الاحتياجات الأساسية أو لاستبدالها بالذهب والفضة أو العملات الأجنبية.
وفي ظل الأزمات المالية الحادة، تلجأ الحكومات عادة إلى إغلاق المصارف، كما يصبح أصحاب الودائع غير قادرين على سحب أموالهم لفترات طويلة (كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1933 في ظل قانون الطوارئ للبنوك). كذلك، تقوم السلطات النقدية بتحديد مقدار السحب من الودائع لدى البنوك، كما يمكن لتلك السلطات تحويل تلك الودائع (كرها أو الزاميا) إلى سندات حكومية أو إلى عملة أجنبية ذات قيمة متدنية. كذلك، تلجأ السلطات إلى فرض قيود كبيرة على حركة رؤوس الأموال والممتلكات القيمة، وذلك بهدف تقليص أو منع تحويلها أو أخذها بواسطة أصحابها إلى خارج البلاد. وقد تقوم الحكومة أيضا بطباعة عملة وطنية جديدة تصحبها إجراءات تهدف للتحكم في التضخم المفرط.
أعراض انهيار الاقتصاد السودانى:
هل يمكن اسقاط أعراض الانهيار الاقتصادي سابقة الذكر على الاقتصاد السوداني؟ في محاولة للاجابة على ذلك السؤال، نستخدم بيانات ومعلومات للفترة 1990-2019 بسنة أساس 2010، مصادرها بنك السودان والبنك الدولي. هذا إضافة إلى موازنة وزارة المالية للعام 2021م.
تشير البيانات إلى أن الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي شهد اتجاها تصاعديا خلال تلك الفترة باستثناء الفترة 2015-2019 التي سجل خلالها الاقتصاد معدلات نمو سالبة بمتوسط بلغ أكثر من 28 في المائة (بأسعار 2010). كذلك، سجل الناتج المحلي الحقيقي للفرد اتجاها تصاعديا حتى العام 2015، ليسجل تدهورا سنويا خلال الفترة 2015-2019 بمعدل متوسط بلغ حوالى 30 في المائة، تعكس المعاناة والحرمان التي شهدتها الفئات الضعيفة التي تمثل نسبة كبيرة من المجتمع.
وفي الوقت الذي يشهد فيه الاقتصاد تراجعا غير مسبوق في الأنشطة المختلفة وتراكما كبيرا في أعداد المتبطلين بلغت نسبتهم 43.2 في المائة من القوى العاملة (موازنة 2021)، قامت بعض لجان الحكومة بإنهاء خدمة بعض العاملين بأعداد لم يسبق لها مثيل، كما قامت تلك اللجان بعمليات مصادرة (سميت استرداد) لبعض المؤسسات والانشطة الاقتصادية وإحالتها لوزارة المالية. ومما لا شك فيه أن هذه الاجراءات قد تضر بالاقتصاد في جوانب متعددة. أولا، إن هذه الاجراءات تعني تعطيل مؤسسات انتاجية في الوقت الذي يتحدث فيه الجميع عن أهمية زيادة الانتاج. ثانيا.. إن تعطيل الانتاج بهذه المؤسسات يؤدي إلى زيادة البطالة. ثالثا.. بخروج هذه المؤسسات من دائرة الانتاج تكون الحكومة قد فقدت عائدات ضريبة أرباح هذه المؤسسات، وكذلك عائدات ضريبة الدخل على العاملين فيها. رابعا.. إن هذه اللجان قد أحالت هذه المؤسسات إلى القطاع العام (وزارة المالية) في الوقت الذي أصبح فيه العالم يدرك أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه القطاع الخاص في النمو الاقتصادي (حتى في روسيا والصين)، ويدرك فيه الجميع أن تلك الوزارة ليست قادرة بأي حال من الأحوال على إدارة هذه المؤسسات، وتكون الحكومة قد وقعت في خطيئة المصادرة والتأميم التي وقع فيها نظام الرئيس الأسبق نميري. خامسا.. إن هذه الاجراءات قد تجهض أي محاولة لجذب الاستثمار الأجنبي والمحلي إذا كانت قد نفذت خارج إطار القانون ودون حفظ حقوق المتضررين.
فيما يتعلق بالموازنة، تشير البيانات إلى أن الدين العام قد لعب دوره كأحد أعراض الانهيار الاقتصادي. وبالرغم من أن الدين العام سجل ارتفاعا مستمرا منذ العام 1975، إلا أن ذلك الارتفاع كان مذهلا متسارعا منذ العام 2015م حيث بلغ 3.5 مليارات جنيه، ليرتفع إلى 5.4 مليارات جنيه في العام 2016، ثم يقفز إلى 14.8 مليار جنيه في 2017م، ليقفز مرة أخرى إلى 56.2 مليار في 2018 وإلى 120.9 مليار في 2019م، أي بنسبة متوسط سنوي بلغت 156 في المائة خلال الفترة 2015-2019. وقد فاقمت السياسات والإجراءات الأخيرة للحكومة من الأزمة عندما قامت وزارة المالية بتطبيق زيادة فلكية في أجور العاملين بالقطاع العام تراوحت بين 500 إلى 600 في المائة أو أكثر، لتبلغ تعويضات العاملين بذلك القطاع 131.1 مليار جنيه في العام 2020، تمثل أكثر من 70 في المائة من عجز موازنة ذلك العام، الذي بلغ 184.1 مليار جنيه يمثل استدانة الحكومة. هذا في الوقت الذي كانت تنكر فيه وزارة المالية اللجوء إلى طباعة النقود لتمويل عملياتها أو محاولة بيع مؤسسات (مثل شركة جياد) أصبحت شامخة ومفخرة وطنية للاقتصاد السوداني لمجرد سداد مرتبات العاملين. وفي محاولة للتحكم في عجز الموازنة، قامت الحكومة برفع الدعم عن السلع الأساسية مثل الخبز والغاز والمحروقات والكهرباء. وحسب تقديرات موازنة 2021، فإن من المتوقع أن تؤدي هذه الاجراءات إلى تقليص العجز في الموازنة إلى حوالى 84 مليار جنيه تمثل 4.5 في المائة فقط من العجز في 2020. وباعتبار أن هذه الأرقام مفرطة في التفاؤل على ضوء الوضع الاقتصادي الراهن، نتوقع استمرار العجز الكبير في الموازنة.
لقد كانت لهذه السياسات تداعياتها على التضخم، إذ كان من الطبيعي أن تلجأ كل فئات المجتمع التي لم تشملها زيادة الأجور إلى رفع أسعار خدماتها. هذا إضافة إلى ارتفاع الأسعار نتيجة رفع الدعم عن السلع الأساسية والخدمات بنسب بلغت في بعض الحالات أكثر من 500 في المائة، ليقضي على الزيادة في الأجور في وقت وجيز.
وكما كان للعجز في الموازنة والزيادة في الدين العام أثره الكبير على التضخم خلال السنوات الماضية، لعب التدهور في سعر الصرف دورا كبيرا أيضا. وبالرغم من أن العجز كان سمة الميزان التجاري في معظم السنوات منذ العام 1975، إلا أنه قد شهد اتجاها تصاعديا منذ العام 2012، مثله في ذلك مثل عجز الموازنة العامة. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الحكومة قد أصبحت تعتمد بدرجة كبيرة على الصادرات النفطية لتمويل التوسع الكبير الذي شهدته الواردات خلال الفترة الماضية، وانها لم تتمكن من اتخاذ الاجراءات والتدابير اللازمة للحد من الواردات (إغلاق الاقتصاد على الواردات، بخاصة السلع الاستهلاكية) بعد خروج الصادرات البترولية من المعادلة الاقتصادية. هذه هي أسباب تفاقم أزمة الميزان التجاري التي يشهدها السودان اليوم. وبالرجوع إلى الفترة 2015-2019 تشير البيانات إلى أن متوسط الصادرات بلغ 3.6 مليارات دولار، بينما بلغ متوسط الواردات 9.0 مليار دولار ليسجل الميزان التجاري عجزا بلغ في المتوسط 5.4 مليار دولار خلال الفترة. وتشير موازنة العام 2021م إلى أن تقديرات الصادرات بلغت 3.8 مليار دولار بينما بلغت تقديرات الواردات 8.2 مليار دولار، لتبلغ تقديرات عجز الميزان التجاري 4.4 مليار دولار. هذه الأرقام تشير إلى عجز موازنة 2021 عن تحقيق انجاز يعتد به في القطاع الخارجي.
وكما هو معلوم فإن العجز في الميزان التجاري له تداعيات متعددة، أولها وأهمها التأثير على سعر الصرف والتضخم في اقتصاد يفتقر للاحتياطيات الأجنبية، وللقدرة على زيادة الصادرات، وللعزيمة الكافية لإحلال الواردات او التحكم فيها، بل ويفتقر أيضا لإدارة ذات إرادة. فقد شهد سعر الصرف تدهورا مستمرا طيلة السنوات الماضية، وأصبح التدهور مريعا خلال السنوات الأخيرة. في العام 1990 كان الدولار يعادل 11.3 جنيها. وقد بدأ سعر الصرف رحلة التدهور الكبير في العام 2014 حيث سجل أكثر من 8,000 جنيها للدولار ليقفز إلى 68,000 جنيها للدولار في العام 2019 (حسب البيانات). وقد واصل سعر الدولار ارتفاعه بوتيرة متسارعة خلال العام 2020، حتى وصل 283,000 جنيها للدولار في أوائل يناير 2021 ثم إلى 315,000 جنيها في أواخر يناير 2021 حسب أخبار مصدرها موقع "كوش نيوز" وكذلك "اليوم التالى". تشير هذه الاحصائيات إلى أن سعر الصرف قد تدهور بنسبة بلغت 3,837.5 في المائة، بمتوسط سنوي بلغ حوالى 480.0 في المائة خلال الفترة 2014 حتى يناير 2021.
وفي اقتصاد يشهد تدهورا كبيرا في البنى التحتية والانتاج والصادرات، ويعتمد بدرجة عالية على الواردات، يصبح التدهور في سعر الصرف وقودا فاعلا للتضخم. فقد سجل مؤشر أسعار المستهلك ارتفاعا مفرطا خلال الفترة الأخيرة، من 160 في العام 2012 إلى 1,344 في العام 2019، أي بنسبة 740 في المائة، بمتوسط سنوي بلغ 95.0 في المائة. وقد أصبح ارتفاع الأسعار شبيها بما كان يحدث في فترات الأزمات الاقتصادية التي شهدتها المكسيك وزيمباوي، حيث كانت الأسعار ترتفع على مدار الساعة.
فى ظل هذه الظروف الاقتصادية بالغة التعقيد، لم تعد للعملة الوطنية قيمة، وكان من البديهي أن تنتقل تداعيات الأزمة إلى المجتمع، بخاصة الفقراء. أصبح الناس بكل طبقاتهم يمارسون أساليب متعددة في محاولة للمحافظة على قيمة أموالهم، تشمل تخزين السلع الضرورية، وتحويل أموالهم إلى أصول ثابتة، بينما اختار البعض طريقة الدولرة في المعاملات الاقتصادية، الأمر الذي يزيد من الطلب على الدولار لتظل نيران الحريق مشتعلة. تواصلت التداعيات لتشمل تدهور الأمن العام في القرى والأحياء والمدن مع استجابة ضعيفة وخجولة (إن وجدت) للحكومة.
على ضوء ما سبق، نخلص إلى أن السودان قد اجتاز معايير الانهيار الاقتصادي بامتياز. في هذا الصدد، نشير إلى أن من الخطأ مقارنة تداعيات الانهيار الاقتصادي في الدول المتقدمة بآثاره في الدول النامية، إذ أن قدرة اقتصادات المجموعة الأولى في امتصاص تلك التداعيات والتعامل معها تختلف اختلافا كبيرا عنها في المجموعة الثانية. على وجه التحديد، تكون الآثار المترتبة على الانهيار الاقتصادي في الدول النامية أكثر قسوة ويكون التعامل معها أكثر صعوبة لأسباب متعددة تشمل كل جوانب النظام الاقتصادي والسياسى والاجتماعى. فإذا كان القانون الأمريكى للعام 1807 الذي بموجبه منعت الولايات المتحدة التجارة الخارجية مع الدول الأوروبية المتحاربة قد تسبب في كساد حاد في تلك الدول، فإن من البديهي أن يكون أثر العقوبات الأمريكية على الاقتصاد السوداني الذي يتصف أصلا بالهشاشة حاد للغاية.
أسباب الانهيار:
هل كان للإنهيار من أسباب؟ بالتأكيد، وهي أسباب سياسية واقتصادية بالدرجة الأولى. لقد بدأت الأزمة السياسية منذ بداية الانقاذ، وعلى وجه التحديد باستمرار الحرب في الجنوب التي بدأت قبل الاستقلال وورثتها الانقاذ من النظام الذي سبقها. استنزفت تلك الحرب موارد ضخمة لفترة طويلة. بالرغم من ظروف الحرب، بذلت جهود هائلة لاستخراج البترول منذ الأيام الأولى للانقاذ في تحد كبير (كان له ما بعده) للشركات الأمريكية بسبب تباطؤها في استخراجه منذ أيام الرئيس نميري، وهو تباطؤ كان متعمدا ويعكس استراتيجية أمريكبة بعيدة المدى للتعاطي مع السودان، من بين أهدافها ممارسة الضغوط عليه لفصل الجنوب والاعتراف بإسرائيل.
وفي ظل ظروف الحرب المعقدة التي أقعدت بالاقتصاد، أعلنت الانقاذ عن سياسات تحرير الاقتصاد، وهي خطوة لم تكن مدروسة بعناية، إذ أنها كانت تحتاج للتعرف على إمكانيات الاقتصاد من حيث التنافسية والفرص المتاحة في السوق العالمي. وعلى ضوء الفرص الضعيفة للتنافس في السوق العالمي، كانت تلك الخطوة (وما زالت) تعني ببساطة فتح الاقتصاد على مصراعيه للواردات دون إحراز تقدم كبير في الصادرات.
وما إن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، بدأت مفاوضات السلام، حيث كان الجنوب يطمح لنيل الحكم الذاتي. وبالرغم من الجهود التي بذلت والموارد التي صرفت لجعل الوحدة خيارا جذابا، إلا أن مجموعة من المعارضة (اتخذت من الجنوب مقرا لها) عملت مع جهات أجنبية على توجيه المفاوضات نحو فصل الجنوب، وهو ما أصبح يمثل انجازا لتلك المجموعة. وبذلك فقد الاقتصاد السوداني جزءا مقدرا من موارد صادرات النفط، في حين ظلت الواردات في تصاعد مستمر.
في الأثناء، فرضت الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية المشئومة على السودان في العام 1997، وامتدت لفترة 23 عاما تمثل أكثر من 75 في المائة من عمر الانقاذ، ألحقت أضرارا لا مثيل لها بالاقتصاد السوداني. هذا بدوره يعكس الطبيعة غير الأخلاقية لتلك العقوبات غير المبررة اطلاقا، ويظهر بجلاء أن أهدافها أصبحت لا تخفى على أحد. إن من السذاجة اعتقاد أن العقوبات الأمريكية على السودان قد فرضت لإسقاط الإنقاذ، وإنما كانت ضمن استراتيجية لتركيع السودان وسلب قراره السيادي، وهو ما شهدناه طوال السنوات الماضية ويتضح بصورة أكبر وصريحة اليوم. فقد استخدمت العقوبات في كثير من الأحيان ليس فقط لتحقيق فصل الجنوب، وإنما أيضا للتطبيع مع اسرائيل، وربما لأهداف أخرى قادمة. وقد كشفت بعض المصادر أن بعض مجموعات المعارضة عملت أيضا عبر المنابر التشريعية الأمريكية لإثناء السلطات الأمريكية عن رفع الحصار عن السودان، ما يمثل امتدادا صريحا للمؤامرة التي رسمت له. وبفعل تلك المجموعات، ورثت الحكومة الحالية تداعيات تلك العقوبات ليستمر الشعب السوداني في دفع ثمنها في ظل عجز كامل للحكومة الانتقالية للتعامل معها.
كذلك، كانت للنزاعات المسلحة دورها في تراكم الأزمات. وقد سارت الأوضاع في هذا الصدد على نحو ما سارت عليه في الصراع لفصل الجنوب. وبالرغم من المباحثات الطويلة والمتعددة التي أجرتها الانقاذ لإيقاف النزيف الدموي والاقتصادي، إلا أن ذلك لم يتحقق. والغريب في الأمر أن المجموعات المسلحة قد توصلت إلى اتفاق مع الحكومة الانتقالية في وقت وجيز لم يتجاوز سنة واحدة أو أكثر قليلا. فهل كانت الانقاذ سببا في تأخر الوصول إلى اتفاق لتجنيب البلاد كل تداعياتها أم كانت هنالك أجندة خفية لبعض الأطراف وراء المماطلة في انتظار الوقت المناسب لها وهي تعلم مسبقا أن تحقيق السلام لن يستغرق إلا وقتا وجيزا؟ ومهما يكن من أمر، فإن السلام أمر مرغوب فيه من كل الجهات وللعديد من الأسباب. لكن، بالرجوع إلى موضوع هذا المقال، فإن استحقاقات تنزيل السلام لأرض الواقع تتطلب موارد مالية ضخمة قد تؤدي إلى تغذية مسار الاقتصاد نحو مزيد من الانهيار. هذا ناهيك عن تداعيات التوترات والعدائيات على جبهة الحدود الشرقية مع إثيوبيا.
الاستجابة للانهيار الاقتصادي:
يدرك الجميع أن فترة الحكومة الانتقالية قصيرة، على الأقل من الناحية النظرية. بالتالي، فإن الحديث عن استراتيجيات وخطط طويلة الأجل لأي حكومة انتقالية يصبح خارج إطار اختصاصات تلك الحكومة إذ أنها لا تمتلك تفويضا للنظر في قضايا يصعب التصدي لها في فترة زمنية قصيرة، كما يصبح من الرفاه إذا كانت تلك الحكومة تواجه انهيارا اقتصاديا ماثلا.
إن التصدي للانهيار الاقتصادي لا يحتاج لمؤتمرات اقتصادية داخلية تجمع بين فئات يصعب الاتفاق فيما بينها حتى في الأبجديات، كما لا تحتاج لمؤتمرات مع شركاء الخارج، ليس فقط لأن لهم أهدافهم الخاصة بهم في المقام الأول، وإنما أيضا لأنهم يواجهون مشاكل ركود اقتصادي بسبب وباء كورونا. إن النظرة للخارج تعكس حالة الإفلاس الذي ظلت تعاني منه الحكومة الانتقالية منذ توليها إدارة البلاد بالمراهنة على رفع الحصار. والتعويل على الشركاء في تقديم الدعم لن يجدي كثيرا لأنه سيكون شحيحا (إذا تم الإيفاء به) وأقل بكثير من المساعدات المالية الاسعافية التي فرضتها ظروف كورونا والأداء الضعيف للحكومة. والمثال لذلك أن حصاد مؤتمر برلين كان ضعيفا للغاية بالرغم من مشاركة العديد من الدول، كما كان بالامكان توفير تلك المبالغ الزهيدة من دولة واحدة أو الحصول على أضعافها من تصدير شحنة واحدة من الذهب. وقد عكس الدعم الذي قدمته بعض الدول صورة واضحة لعدم استعدادها للمساعدة، أو للاستمرار في مزيد من الابتزاز، أو لحالة عدم اليقين حول الوضع الراهن في السودان. في هذا السياق، يجب أن لا ننسى الوعود المتكررة التي قدمتها مجموعة الشركاء في مباحثات الجنوب لدعم السودان (بل وجنوب السودان أيضا) في حالة فصل الجنوب، ومجموعة مؤتمر الشركاء ببرلين، وكذلك الوعود المتكررة التي قدمتها الولايات المتحدة لرفع الحصار عن السودان، الذي استخدم في ابتزازه للتطبيع مع إسرائيل. وبالرغم من أن محصلة تلك الوعود كانت هزيلة، ما زالت الحكومة تلهث وراء المساعدات الأجنبية، وعاجزة تماما عن صياغة برنامج وطني لإصلاح الحال تجنبا لإذلال الشعب وحفظا لماء وجهه.
إن التصدي للانهيار الاقتصادي يتطلب إجراءات واضحة وعاجلة وفورية لا تحتمل التأخير، ويتطلب في المقام الأول تكوين حكومة بصورة عاجلة لإدارة الأزمة، تتكون من أشخاص أكفاء بدون انتماءات سياسية أو أيديولوجية بهدف الخروج بالبلاد إلى بر الأمان تجنبا لانهيار الدولة. تكون لهذه الحكومة مهام محددة واضحة ضمن برنامج اسعافي يبدأ تنفيذه دون تأخير بهدف تحقيق الأولويات الآتية:
1. احتواء تداعيات الأوبئة (من بينها كورونا) على الوضع الصحي من خلال التوسع في الانفاق العام على القطاع الصحي بكل مكوناته. وعلى عكس ما جاءت به موازنة 2021م وما تتفاخر به وزارة المالية من زيادة كبيرة في مخصصات التعليم العالي والبحث العلمي، كان من الأجدر أن تأتي تلك الزيادة لمخصصات القطاع الصحي الذي يجب أن يأتي في الأولوية. هذه هي مشكلة تحديد وترتيب الأولويات حسب الأهمية، إذ ليس هنالك من مبرر لزيادة مخصصات التعليم العالي والبحث العلمي في ظل ظروف يموت فيها الناس بسبب الأوبئة والأمراض وعجز المؤسسات الصحية لتقديم الخدمة.
2. احتواء تأثيرات الوضع الاقتصادي على الفقراء والفئات الضعيفة من خلال تحويلات مادية عاجلة، بطريقة أو بأخرى، باعتبارها الفئات التي تتحمل العبء الأكبر من تداعيات الأزمة، كما أنها تمثل الجزء الأكبر من المجتمع. وبالرغم من الصعوبات التي من المحتمل أن تواجه الحكومة لتنفيذ هذه التحويلات، من أهمها عدم توفر بيانات للتعرف على تلك الفئات، إلا أن بالامكان اتباع الطريقة المناطقية، والبدء بالمناطق الأكثر فقرا من حيث الخدمات العامة كالمياه والكهرباء والصحة والتعليم والمرافق الأخرى ذات الصلة.
3. تقليص العديد من بنود الانفاق العام بصورة مباشرة وعاجلة لإحراز نتائج سريعة تفاديا لطباعة النقود ومزيد من التدهور خلال فترة البرنامج. من أبرز تلك البنود الإنفاق على الحكم الاتحادي والولائي، والبحث العلمي، والمؤتمرات، ومخصصات الوزراء وأعضاء المجالس السيادية والتشريعية (إن أنشئت). هذا، إضافة إلى تعزيز كفاءة استخدام الموارد من خلال ضبط ومراقبة بنود الصرف، إذ أن العديد من بنود الإنفاق العام تهدر فيها موارد كبيرة دون مساءلة، مما يفتح باب الفساد. هذه كانت واحدة من أكبر المشاكل التي واجهت الانقاذ، بخاصة من قبل المنتفعين والمتسلقين الذين لا ينتمون أصلا للنظام. هذا إضافة إلى تأجيل استحقاقات السلام التي يمكن أن تؤدي إلى توسع هائل في عجز الموازنة. في هذا الصدد، نشير أيضا إلى أن الإنفاق العام قد ينفجر في أي لحظة إذا ما حدث تدهور في الوضع الأمني بالجبهة الشرقية على الحدود مع إثيوبيا.
4. تحقيق التوازن الخارجي (توازن الميزان التجاري) خلال وقت وجيز في ظل انعدام احتياطيات رسمية من النقد الأجنبي كان يمكن استخدامها لمنع مزيد من التدهور في سعر الصرف. إن ضعف استجابة الانتاج والصادرات لأي سياسات في الوقت الراهن بسبب ضعف البنى التحتبة يعني أن هنالك ضرورة قصوى للرجوع إلى الجذور بأن "تمدد كل من الأسرة والدولة أرجلها على قدر لحافها" من خلال تطبيق سياسة التحكم المباشر على الواردات بحسب الكميات التي تتيحها عائدات صادرات الذهب والماشية والصمغ العربي من النقد الأجنبي. هذا يتطلب فرض قيود صارمة على الواردات من السلع الاستهلاكية، تصاحبها إجراءات اسعافية سريعة لمعالجة الصعوبات المباشرة التي تواجه الانتاج المحلي للسلع الأساسية. تتمثل قائمة الواردات الأساسية في مدخلات الانتاج، والأدوية، والطاقة، ووسائل النقل العامة، والسلع الغذائية الأساسية، مع حظر كل السلع الكمالية غير الضرورية (سلع الاستهلاك التظاهري والتفاخري). ومن غير المتوقع أن يكون لهذه السياسات أثر على الغالبية العظمى للمجتمع، إذ أن أغلب موارد النقد الأجنبي تستخدم لاستيراد السلع الاستهلاكية الكمالية والتفاخرية التي تستأثر بها الطبقات الغنية، مثل السيارات الفارهة، وأنواع الأفرشة والأثاثات الفخمة، بل والتفاح والعنب، بينما يعاني السوق من شح في الأدوية، ومدخلات الانتاج للزراعة والصناعة.
نختم بالقول إن الانهيار الاقتصادي الراهن متشعب ومتعدد الجوانب، وأن مآلات البديل لتلك السياسات يصعب التنبؤ بها، أقلها مزيد من الانهيار الاقتصادي والفوضى الاجتماعية وانفلات الأمن الداخلي، وتهديد الأمن القومي، وانهيار الدولة. هذه الصورة القاتمة تتطلب تضافر الجهود وتكثيف برامج التوعية المجتمعية بمآلات مخاطر الانهيار الاقتصادي والسياسي والأمني، إضافة إلى شحذ الهمم في اتجاه تعزيز السلوك الوطني نحو الاعتماد على الذات في معركة التصدي للانهيار الاقتصادي والوقوف بقوة في وجه المؤامرات وخيانة الوطن تفاديا لانهيار وضياع الدولة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.