في بداية دوام يوم الإثنين أمرّ عليه، كطبيب يقف عند مريض بغرفة الإنعاش، ولكني وجدت صلاح هو الطبيب. أمر عليه كل يوم للتحيّة والسلام، كمن يصلي بالمسجد الحرام، ولكني أقتصر السلام، كمن يقصر الصلاة، وهأنذا أغسل بدموع الصمت مناديل الأحلام المتسخة، وأنشرها فوق حبال الذكريات، فتتساقط كأوراق صفراء وليس الفصل خريفاً. يجلس بالقرب مني عند أداء صلاة الجمعة بالسفارة، لأن عبد الرحمن العطية أقام لنا قاعة للصلاة ويوم الجمعة عندنا خطيب، أخافنا بصورة الثعبان الأرقش. بعد الصلاة يأخذني من يدي ونتجه صوب مكتبه. ضياء الدين.. غدا السبت العشاء في المطعم المغربي بالحي اللاتيني وهو مطعمي المفضل ومنذ ان كنت أسكن هناك. نلتقي غداً ان شاء الله. وصلت قبله وانتظرته أمام المطعم، وصل مبتسماً ووضع يده على كتفي وهو يعتذر للتأخير لأنه لم يجد موقفا لسيارته. نأكل طاجن بلحم الخروف والخضار المشكل. بعد أسبوع كامل أتمنى أن تكون فكرت، وأنا في انتظار قرارك وليس رأيك. أستاذ صلاح أرجوك أن تعفيني من هذا الموضوع ولو أدى لقطع العلاقة بيننا. يضحك، لا لن يصل الى هذا المستوى. قل رأيك بصراحة وليس هناك حرج بيننا. تريد رأيي أستاذ صلاح… تريد رأيي أستاذ صلاح.. وكما تقول أنت.. هلّ، هلّ علي الجد أنا رأيي، لا تتزوجها. تسقط الملعقة من يده، ويرش الطعام ملابسنا. صمت مخيف.. يخرج الكدوس ويشعله ويبدأ يدخن.. سترى في المستقبل وتتأكد من كلامي هذا، بكل المقاييس هي ليست لك، وأنت بالذات كمن يقف على مرتفعات جبل الرحمة. ضياء الدين أرجوك ألاّ نتحدث في هذا الموضوع بتاتاً. شعرت بعقدة ذنب وخوف واضطراب. أوصلك في طريقي. لا شكراً أريد أن أمشي. نفترق وفي رأسي هواجس مخيفة.. وقفت أنفض غبار الذكريات. قتلت قيثارتي ودفنت أوتاري. والطيور مهما طالت رحلتها عبر فصول العام تعود. فلعل الله يتقبل محرقة الدموع. أنا لن أبيعك لساحرة الجنة الملعونة.. لأنك هدية الله عند فاطمة.. والهدية لا تهدى ولا تباع. صلاح إن قلبي ينبض بحبك، ويجتر من ماضيك أغلى ذكرياته، لأنك وجه المستقبل الزاهي. لم تعلمني الحياة أن أمثل على مسرحها الباكي، بل أجلس لأصفق لعروضها الهزلية المضحكة. نفس المكان ونفس الأشخاص ونفس العبارات فقط تتغير الأدوار. أستاذ صلاح أنا عندي مشروع زواج ولكنه في الأفق البعيد، وربما وجدت الشابة ذات الوجه الأبيض والتي باركتها أمي. صحح قدري وأكتبه مرة أخرى، وخذ بناصيتي إلى مرقد الأحلام، وأنت الذي سينقذني آخر المسافة. يضحك كعادته، الخواجيه كرستيان لو هي وافقت أنا موافق، هذا مشروع بعيد جداً، ولكن أتركه لي، وأنا عندي تجربة مرتضى أخي لأنه تزوج نمساوية. تفاءلوا بالخير تجدوه. بدأ يتعرف عليها عن قرب ويعطيها بعض الدروس في اللغة العربية وهو الذي علم بالقلم، وكانت هي تدرس اللغة العربية والحضارة الإسلامية بجانب دراستها في كلية الآداب بجامعة السوربون. وجد لها برنامجا بجامعة الخرطوم لدراسة اللغة العربية لغير الناطقين بها لمدة شهر ونصف. وكان هدفه أن تتعرف على أهلي وظروف بلدي، حتى لا تصيبها صدمة حضارات وليس من رأى كمن سمع، وربما رجعت بقناعة أخرى وصرفت النظر عن هذا الموضوع، ويكون هذا المشروع انتهى، وكما يقول المثل السوداني، البركة الجات منك يا بيت الله. سافرت كرستيان إلى الخرطوم يوم 1983/7/30، ذهبت عند أهله فوجدت التومة شقيقته ولم تقابل فاطمة وزارت أهلي. رجعت من الخرطوم 1983/9/18. كانت سعيدة بالزيارة ووجدت أهلنا لطفاء يتمتعون بخصال من زمن آخر. مايو 1985 أخذ صلاح إجازة وكان يعد في أغراضه، لقد كان سعيدا، يحضن فرحة وطن تائه بعيد، لقد أحب صلاح وطنه وأهله، وهو يحلق في عالم المودة والجرح القديم. أعطيته بعض الرسائل وقليلا من راتبي هدية لأخواتي لشراء دواء الصبر والأمل البعيد. لقد قام بزيارة أختي بالموردة وهو يحمل سلامي وأخباري، وكادت أختي تزغرد وهي تحتضن جمر العذاب والبعاد، طل صلاح بروحه الفرائحية كالصباح المطل على الحياة. عندما يكون صلاح في إجازة يتصل بي بانتظام وعندما أكون في عطلة اتصل به بانتظام وكأن الأقدار تقودنا الى رحلة اللاعودة. سبتمبر 1987 يقوم بزيارة أخرى للوطن، نفس المشهد، قدر تائه تركني لزمن لا يرحم، وصلاح هو الفجر اذا تنفس. مايو 1988 باتفاق مسبق نلتقي عند مأتم امرأة عزيزة علينا لنقدم واجب العزاء لأسرتها والتي تربطنا بها علاقة مميزة. موت الغربة فاجعة وفقد الأم عظيم، وجدنا وجوها حزينة نعرفها من بعيد، ورجال دين وديانات أخرى. نخرج لنلتقي في مقهى الفوكيت الشهير على شارع الشانزليزيه. لأول مرة يتطرق صلاح لموضوع حبه السابق ورأي القاسي. أنت يا ضياء الدين ساحر منجم، كيف قرأت كل هذا، أنا مندهش، لأنه تحليل مخيف، أنا على قناعة تامة أنك تمتلك موهبة خارقة ولقد أعطاك الله مقدرة نادرة، وعبد الرحمن العطية دائماً يقول لي إن ضياء الدين ذكي ويجيد لغة العيون. صلاح أنت جوهرة الله بيننا، والحافظ الله وأنت الحافظ لله. يونيو 1989 دعوة عشاء في مطعم إيطالي قرب الأوبرا، طاولة مستديرة، نحن خمسة مرتضى أحمد إبراهيم وزوجته النمساوية وصلاح وأنا وكرستيان، اجتماع عائلي، لمناقشة مشروع زواجي، وأبلغت كرستيان أن في هذا الاجتماع سيصدر قرار الموافقة أو عدم الموافقة، لأنه سيكون قرارا سياديا لا يقبل المناقشة. صدمت كرستيان من هذا الإجراء، كيف يتخذون قرارك وهم أصدقاء لا أقرباء. هم أولياء أمري. بدأت زوجة مرتضى النقاش والأسئلة وبعدها مرتضى، كان نقاش حكمة وعقل بعيدا عن العواطف، بعد ثلاث ساعات من النقاش، قالت زوجة مرتضى مبروك وتلاها مرتضى مبروك وأكمل صلاح مبروك وربنا يسعدكم. كان تعليق مرتضى، والله نحن لم نفكر ربع فكركم هذا. أما زوجة مرتضى وهي ضاحكة، تعرف ضياء أنا عندي ولدين ولو كانت عندي بنت كبيرة لسرقتك من كرستيان وزوجتك إياها. 1989/10/21 هو يوم زواجنا، كان صلاح أحمد إبراهيم هو الشاهد لكريستيان وكان معها في جميع المراسم، وفي مراسم الزواج هو الذي وقع على دفتر البلدية وهذا هو الزواج المدني وبعدها ذهبنا الى المسجد للزواج الديني. كانت كرستيان أعلنت إسلامها معي قبل الزواج. وعند إجراءات الزواج الديني طلب منها إمام المسجد مرة أخرى، ترديد الشهادة وقراءة بعض السور الصغيرة واختارت لها اسما إسلاميا وعربيا نادية. كان صلاح حاضراً، وهو أمي التي ماتت ولم تزغرد، هو أبي الذي لم يبشر، هو أخواتي بالثوب السوداني، وأخي بالعمة والجلابية، وأنا أمسح دموع عيوني المكحلة بالدم والحنين. صلاح هو عُرسي، وأنا اليتيم بين الأصحاب. زواج الأشباح، لا صندلية، لا خُمرة، لا حنة سوداء، أنا المهاجر الغريب، الذي يحمل العشب والموتى. بعد زواجنا بعام، وبعد إجراء الفحوص الطبية، يتضح أن زوجتي لا يمكن أن تنجب، وفي آخر مقابلة مع الدكتور بالمستشفى الأمريكي وهو فرنسي من أصل يهودي، يمازح زوجتي عندما وجدها حزينة، هل عندك أي اعتقاد ديني، قالت له، نعم أنا مسلمة، قال لها، إن العلم والطب لا يستطيع أن يعمل شيئا واذا تؤمنين بربك اتجهي نحوه ربما يساعدك. نتصل بصلاح ونطالبه بالحضور، ونشرح له، وهو الرجل المؤمن القوي، يطمئنها بكلمات الرجل الصالح، أنتي قريبة من الله وهديته لك بين أجنحة ملائكة الرحمة، هنا قررت أن نذهب العمرة، أدينا العمرة وكانت على قناعة مذهلة أن الله سيكرمها. يحضر عندنا صلاح لمباركة العمرة، وتشرح له أول عمرة في أجواء بيت الله وكيف أنها كانت سعيدة وبكت طويلا وهي تدعو الله، وكانت على يقين أن الفرح لقادم، وكأنها تقرأ صحيفة عمرها. نحجز لها بالمستشفى الأمريكي وعند طبيبها الذي لا يجد تفسيراً، لأن الولادة ستكون بعملية قيصرية. داخل غرفتها ومعنا صلاح، تغمره سعادة روحانية ويقول إن الله إذا أحب عبداً أكرمه. عرف صلاح أنها تنتظر ولداً. سألها صلاح، أي اسم اختارت لمولودها، قالت له، الاسم الأول طبعاً صلاح والثاني سامي. سألها لماذا صلاح. لأنك الفرح والأمل الذي رافقني في حياتي. التفت إليّ وقال لي، لماذا صلاح ؟ لأنك بدون أولاد وأنا أعطيك صلاح الصغير لكي تربيه وتهتم به لأنني سأموت قبلك. دمعة تجري على خده. أنا لأول مرة أشعر بسعادة غامرة، أنا أعتبر أن اسمه صلاح وسيظل في خاطري صلاح ولكن أرجوكم أن تسموه سامي. لأن مرتضى أخي ابنه إسمه سامي وهكذا يكون عندي سامي هنا وسامي هناك، وأنت يا ضياء الدين تربي ولدك لأنني سأموت قبلك، وأعطيته صندوق المناديل ليجفف دموعه. ولد صلاح الصغير سامي 1992/4/4، وقررت أمه أن نذهب به للعمرة حتى تشكر الله، كانت هذه الرحلة في أبريل 1993. وفي طريق عودتنا نتوقف في مدينة أبوظبي، ونزور التومة شقيقة صلاح وهي عند ابنتها في زيارة أسرية خاصة. اتصل بي أحد الزملاء بالسفارة القطرية وأخبرني أن أستاذ صلاح عنده فحوصات بالمستشفى الأمريكي ولكنه منتظر وصولي. اتصلت على الفور بأستاذ صلاح. قال لي إنها مجرد فحوصات وسينتظر وصولي، ممكن أحضر غدا، متى وصولك، يوم الأحد صباحا، ممتاز نلتقي يوم الاثنين التاسعة صباحا بالمستشفى الأمريكي. بعد وصولي ذهبت عنده وجدته باسماً سعيداً بوصولي، أخبرته عن رحلتنا وخاصة زيارتنا لشقيقته التومة، المرأة التي تجلس تحت شجرة الصبر. نلتقي صباح الإثنين بالمستشفى، ونبدأ إجراءات دخوله، وحجز غرفة بالطابق الثاني رقم 205. تصل زوجتي، ويقول لها، كان عندي ألم في البطن، وعملت فحوصات، وقرروا عملية لاستئصال جزء من القولون، ولكن في انتظار مزيد من التحاليل، ربما الاسبوع القادم العملية. يوم العملية صباحاً كنت أنا وزوجتي، ونحن في حالة هلع وخوف رهيب، أعطاني ساعته لأحتفظ بها، وهي ساعة قيمة كانت هدية من الشيخ حمد بن سحيم آل ثاني وكان وقتها وزير الإعلام، وكان صلاح في زيارة للدوحة. أستاذ صلاح هذا كل ما تملكه، وهو يضحك، لأول مرة أراه قوياً أمام المرض، نذهب معه من الطابق الثاني الى الطابق الأرضي حيث صالة العمليات، كانت زوجتي تبكي بكاء مرّاً، وكنت انا أبكي بخجل وهو يغني أغنية سودانية، كفارة ليك يا زول المرض ما بكتلو زول. استودعناه الله. وزوجتي في حالة يرثى لها، وهي تقول لي أنا خائفة على صلاح، صلاح لن يتعافى، صلاح لن نراه مرة ثانية. غضبت على زوجتي وهي التي بدأت تنعى صلاح، أخذتها بسرعة وأوصلتها الشقة، إذ كنت أسكن في منطقة لوفالوا حوالي عشر دقائق بالسيارة من المستشفى ورجعت في انتظاره. استيقظ المساء، وشرب شوربة، وبدأ يتعافى. غداً صباحاً طلب مني أن استعجل قدوم شقيقته التومة من أبو ظبي، وكانت فكرتي أن أحضر فاطمة لأنها بلندن وهي قريبة وتأشيرتها أسهل. رفض بصورة قوية أرجوك، أنا أريد التومة، فاطمة آخر من يصل.لماذا فاطمة آخر من يصل، بينك وبينها مشكلة، يبتسم، فاطمة لا تتحمل ان تراني هكذا، فاطمة ستنهار لك ولا يمكنك ان ترفعها اذا وقعت، ولا تستطيع ان تمسح دموعها. التومة شجاعة وصبورة. بلغت عبد الرحمن العطية ولقد بلغ السفير القطري بدر عمر الدفع. وصلت التومة بسرعة. أنا أنام عنده بالليل ونتحدث كثيرا، أنام على الكرسي. كان يطمئن مرتضى وفاطمة أنه بخير ولا داعي للحضور. مساء الأحد يوم 1993/5/16، تناول العشاء، وكنت معه أقرأ له في بعض المقالات من مجلات عربية، وفجأة طلب مني أن أذهب الى شقتي لأرتاح قليلاً، وقال : ضياء الدين أذهب ارتاح لأنك مرهق وأحضر غداً صباحاً لأن الضيوف سيحضرون غداً. أي ضيوف أستاذ صلاح، أنا ما عندي ضيوف غيرك، حلفني أن أذهب وأن أخرج من الغرفة. أخذت الكرسي وجلست على الممر وتركت باب الغرفة فاتحا وأنا أتصفح المجلات. سمع حركتي، طلب مني الحضور وأن أجلس بالقرب منه. يقول لي صلاح : أنت رأسك ناشف، ولن تذهب، تعال أوصيك. أقول له وهو الذي يذكر كلمة الموت كثيراً. أستاذ صلاح هذا كلام الموت، بماذا توصيني، أنت لا تملك عقارات ولا أراضي ولا شيء. أسمعني جيداً ضياء الدين : أوصيك بأختك عبلة وكأنها فاطمة أختي. وأوصيك على السودان. ضحكت وقلت له، أي سودان، السودان الفرنسي، لا، السودان بلدك، إذا طلب منك السودان أي خدمة أن تؤديها، وأخيراً سلم على الأخوان. بدأ ينام، أخذت الكرسي وجلست عند الممر، وتركت باب الغرفة مفتوحاً. وصلت الممرضة الساعة السادسة صباحاً، ودخلت علية كالعادة، ورجعت عندي وقالت لي : أحسن الله عزاءك، لقد رحل اليوم الإثنين 1993/5/17. دخلت عليه والممرضة تمسك يدي. لقد وجدت ملك الموت نائما على يمينه، أغمضت الممرضة عينيه، وغطت وجهه، وفتحت النافذة، وقالت حتي تصعد الروح الى السماء. إلهي خذ روحي، وأترك صلاح، إلهي خذني إليك، وأترك صلاح لابني وزوجتي. نظرت إليه ودموعي تنهمر، وهذا هو يوم البكاء الكبير، ونظرت من النافذة حتى أرى كيف تصعد الروح الى السماء. فوجدت الطير المهاجر خلف النافذة وأغصان غابة الأبنوس سوداء تعلن الحداد الأبدي، ونهر السين يعزي نهر النيل. لقد كان صلاح وسيماً أمام الموت، لقد كان قوياً أمام الموت، لقد كان هو الموت. لو لم يكن الموت مكتوباً على صفحات العمر لخلقته جنة لا تفنى. يا حزن أهل صلاح على الأرض الجدباء متى تورق، ومهما يكبر في العين جمال الكون وتتعاظم أفراح الناس، تبقي ثغرة حزن تنفذ منها كل الأوجاع المخبوءة، ويبقى الموت بابا لا يمكن أن تغلقه الأقدار. لك ضربت أجراس الكنائس، ولك أقيمت المآذن، والكل يصلي، وأنت.. أنت غائب المكان. اليوم وبعد سبعة وعشرين عاماً، أغلق باب مجلس عزاء أبي في الغربة صلاح أحمد إبراهيم، وأنزل خيمة عزائي والذي انتهى بانتهاء الدفن.