نعى الناعي إلينا في أمسية الخميس الحزينة 2021/12/9 انتقال حبيبنا وأستاذنا وصديقنا عبد الكريم عبد العزيز الكابلي من الدار الفانية إلى الدار الرحيبة، له الرحمة والمغفرة الواسعة ولأسرته ولأهله وذويه ومعارفه وأصدقائه ومعجبيه، وكل أهل السودان حكومة وشعباً حسن العزاء والصبر والسلوان . تعرفت على الأستاذ الكابلي عبر نشيد التعاون في السبعينيات، وأنا بالمرحلة الابتدائية بمدرسة الشمباتة شمال شرق سنار، وأثناء مرسالي لدكان عمنا عبدالله ود الزين (رحمة الله عليه)، كنت غالباً ما أستمع لنشيد التعاون، منبعثاً من مذياع الدكان. لن يصيب المجد كف واحد نبلغ المجد إذا ضمت كفوف وقتها لم أعمل الفكر في معاني تلك الكلمات، ولكن هذا اللحن يطربني، ويتملك وجداني وأحاسيسي، ولما تدرجنا في المراحل الدراسية، وصرت أكبر سناً وأكثر إدراكاً، عرفت أن صاحب هذا الصوت الجميل واللحن الموشى الأستاذ عبد الكريم الكابلي، ومن حينها ظللت أتابع أغنياته في الإذاعة والتلفزيون، ولاحقاً محاضراته في أي مكان في الخرطوم، مهما كان ظرفي، وآخر ما حضرت له كانت محاضرة عن التراث الشعبي في دار النشر جامعة الخرطوم . الأستاذ الكابلي يهتم بالقيم السامية في الناس بدرجاتها المتفاوتة، ويسعى ويسعد بالاحتفاء والاحتفال بها وتكريمها، وهو في سانحات كثيرة أعمق وأسمى منها هو نفسه، وكلما قابلته وتجاذبت معه أطراف الحديث لا تبرح لسانه (كتر خيرك)، يقولها ومذاق صوته العذب والملئ بالمحنة والطيبة (تحنان وطيبة ناس زمان *** شالو السماحة وشيلو) رجل أنيق فى حديثه، أنيق ساحر في ملابسه وسمته، وعبقرى في سهراته وأسماره، فمن لم يسمر مع عبد الكريم الكابلي لم يذق للسمر والمؤانسة طعماً، صفاء في الذهن، وسحر في اللفظ، وجمال في الروح، لا يقحم الحديث، ولا يشق في المؤانسة، مجلسه مراجعات في الأدب، يتحدث عن المتنبئ، فتود أن تكتب حديثه، ويغني الجندول، فتعجب لهذا الفن الثر، ويعرج على الشاعر تاج السر الحسن عندما يغني آسيا وأفريقيا، يسرح بك الخيال عندما تراه منفعلاً بهذه القصيدة، وما به من معايشة معها، وهو يجوب آفاق الآرض في آسيا، أفريقيا، المغرب، الجزائر، الصين، باندونق، كينيا، السودان عند حلفا، مصر ودمشق. ويلتقى بالجيوش وبالقادة العظماء وبالأدباء والشعراء يلتقي بناصر، وجومو كنياتا، وغاندي، وطاغور. أستاذنا الكابلي يأسر المهج بصوته الموشى، وطلته البهية، لقد حباه الخالق العظيم صوتاً بديعاً، إذا تحدث أو تغنى، وكما قال أخي وصديقي الموريتاني حمود ولد سلمان، الذي يشاركني الإعجاب بالأستاذ الكابلي: (حالم آسر، فى صوته حلاوة وطلاوة ونقاوة، وسحر يتردد صداه فة الروح، مطبوع بالفطرة على الوزن والإيقاع والكلمة الجميلة، يتماهى مع اللحن إلى منتهى الروح، ساحر آسر، يعرف أسرار الموسيقى، متوهج الروح، صافي العمق، بعيد الفور، عذب، حلو، شجي، يتردد ويمتد، شجياً ندياً بهياً جميلاً ينادي الروح، جهورياً، شاسعاً، عابراً أثيرياً، تهفو له النفس وترتاح، يتجدد كل حين، ويتوزع في الأثير، ينضد النغم المورد للنهار حتى مع الليل المخيم بالظلام … يهب الحياة، غناؤه يهب الفنون). الأستاذ الكابلى شاعر مرهف الحس يتمع بذائقة ذواقة، للموسيقى والشعر ومذيقة لهما، بفعل التناغمية الجميلة، والنغم يصوغ الروح والفن، والسحر، وقادر على تأهيل الكلمات، والتعبير عن مشاعر راقية وحفية بكل أشكال وألوان مواطن الجمال، وهو موسيقار، وملحن، ومطرب بأصدق وأعمق ما تعنى هذه الكلمات من معانٍ. والأستاذ الكابلي إلى ذلك من النخبة المتميزة من المثقفين المسكونين بحب الوطن، الناهضين، بكل قدراتهم وإمكاناتهم للتعريف به، ونشر ثقافته لا سيما ما اتصل منها بالفن الغنائي قديماً وحديثاً، على المستوى الإقليمي والدولي. تعينه في ذلك قدرته المتمكنة من التعبير البليغ باللغة العربية واللغة الإنجليزية، وذائقته الأدبية الرفيعة، وموهبته فى تنمية علاقة التواصل الحميم مع كل من يستمع إليه في الأدوار كافة، مغنياً ومحاضراً ومشتركاً في ندوة أو في محفل ثقافي، وعلى الرغم من قدرته الفائقة على إعادة صياغة الألحان بأسلوب استحوذ على مشاعر عشاق فنه، إلا أنه قد درج على المناداة المتصلة بأهمية الحفاظ على الفنون التراثية في صورتها الأولى؛ حتى يتعرف الدارسون والمهتمون على الأصول، ثم لا مانع بعد ذلك من الاجتهاد وإعادة الإنتاج على النحو الذى يتسق مع المعطيات الآنية في التذوق الفني، وفي الآلات الموسيقية، وفي الأجهزة والمعدات التقنية الحديثة . تستمع إلى الأستاذ الكابلي فيطربك ويشجيك ويفتح أمامك عالماً مترعاً بالحسن، غنياً بالجمال باعثاً للسعادة، والكابلي في كل ذلك يحرص على التجويد والإتقان. مختاراته تشبه إلى حد كبير (حوليات) الشاعر العربي الكبير زهير بن أبي سلمى، إذ هو يقضي الحول، بل أحياناً كثيرة أكثر من الحول للترنم ومعايشة القصيدة كلماتٍ ومعاني وألحاناً، قبل أن يبثها للسامعين، مثال لذلك أوبريت السلام للشريف زين العابدين الهندي . كان الأستاذ الكابلي فناناً متفرداً، وإنساناً نبيلاً بأعظم وأكمل ما تحمل هذه الكلمات من معانٍ. إنا لفقدك لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي الله جلت قدرته، إنا لله وإنا إليه راجعون.