انقلاب 25 أكتوبر أنتج أزمة سياسية حادة وخانقة، تتجسد بشكل عام في اختلال التوازن السياسي، وفقدان الثقة، وعدم التوافق السياسي، وغياب الأرضية المشتركة بين الفرقاء، وظهور الشطط والتطرف في المواقف، وإنسداد الأفق، والمبادرات ومشاريع المواثيق وخرائط الطريق المطروحة في مجملها تعبير آخر عن الأزمة، أكثر من 22 جهة تطرح حلًا من طرف واحد للأزمة، هذه المبادرات تنقسم ما بين العودة الى الشرعية الدستورية أو انتاج شرعية ثورية جديدة. وبعد مرور أكثر من شهرين من انقلاب 25 أكتوبر، وانطلاق 16 مليونية و 64 شهيدًا وعشرات الجرحى، يبدو أن الوصول الى حل للأزمة مازال معقدًا، وإن تكشفت مداخله، فلا يزال السودان حبيس أزمة مستحكمة، وتوترات سياسية، وتظاهرات شعبية، وأوضاع اقتصادية صعبة، عطفًا على العنف المفرط والممنهج والمميت في مواجهة المواكب السلمية، والذي يبعث الشك بوادر وإرهاصات استبداد جديد "دكتاتورية جديدة" يقودها المجلس العسكري، وما يزيد الشكوك أكثر أن الجيش على مدار عقود ظل مشغولًا بالسياسة، والإجراءات الانقلابية الأخيرة التي اتخذها قائد الجيش في أكتوبر أعادت القلق من جديد على مستقبل الدولة المدنية والديمقراطية. في الوقت ذاته هناك عدم رضا عن فترة الشراكة السابقة، والنسق البطيء للتغيير، وانهيار التوافقات السياسية والدستورية، مما ولد نقاشات داخل أروقة القوى السياسية والثورية حول مراجعة أولويات الانتقال بالتزامن مع الحراك الثوري لتفكيك الانقلاب الذي أنشاء بيرقراطية تستمد مسوغاتها من تجربة النظام المباد كبديل يحقق للانقلابيين الحد الأدنى من القبول بشرعيتهم، وتخفيف السخط الشعبي الذي أصبح كبيرًا جدًا لحكم العسكر، لا سيما بعد تخلي المكون العسكري عن الشرعية الدستورية بإلغاء مواد أساسية في الوثيقة الدستورية، مما دعا القوى الثورية الى البحث عن شرعية جديدة مستمدة من الثورة، والتي اذا انتصرت بديهيًا ستغير الوثيقة الدستورية ومراجعة والغاء الترتيبات السائدة. (2) خلال الفترة السابقة تم تحديد مسارات الانتقال بإنشاء مؤسسات سياسية ودستورية، وإصدار قوانين وتشريعات على اساس توازنات وتوافقات فرضها توازن القوة الذي أنتج الوثيقة الدستورية ولاحقًا اتفاقية السلام، هذه التوافقات انهارت بالانقلاب، وحدث تغيير في توازن القوة. الآن كل القوى الثورية والسياسية والمهنية ولجان المقاومة تتحدث عن إسقاط الانقلاب، وإعادة ترتيب أولويات عملية الانتقال، بالإسراع في اعتماد طبيعة النظام السياسي الأكثر تمثيلًا، والاكثر توافقًا، واعتماد أولويات مهام الانتقال كبرنامج للحكومة المقبلة. وفي ذلك طُرحت مسودات المواثيق وخرائط الطريق جميعها تعد محاور للإجابة علي الاسئلة الآاتية: الترتيبات القانونية المتعلقة بالوثيقة الدستورية والتعديلات المطلوبة في متنها. مهام الحكومة الانتقالية "قضايا الانتقال" وأهمها: الاقتصاد. السلام. إصلاح الخدمة المدنية. إصلاح القطاع الامني والعسكري. إصلاح المنظومة العدلية. العدالة الانتقالية وعدم الإفلات من العقاب. التحقيق في الانتهاكات التي تمت وحالة الطوارئ. العلاقات الخارجية. إزالة التمكين. المفوضيات. الانتخابات. المؤتمر القومي الدستوري. مؤسسات الحكم الانتقالي: المجلس التشريعي. مجلس السيادة. مجلس الوزراء. مؤسسات الحكم الاقليمي والولائي والمحلي. وضع الجيش والمجلس العسكري خلال الفترة الانتقالية. وضع شركاء دعم الانتقال في المجتمع الدولي والإقليمي. وضع الأحزاب السياسية ولجان المقاومة والمجموعات النقابية والشبابية والنسوية والمهنية. هناك تباينًا واضحًا حول الإجابة على هذه الأسئلة وهناك تطابق في كثير منها. (3) الحقائق التي ينبغي مراعاتها في أي مشروع لحل الأزمة وتحويلها إلى فرصة حماية الانتقال، والتأسيس للتحول الديمقراطي أهمها: ضرورة إدماج تطلعات الشارع وهموم الجماهير في الوثيقة والهياكل السياسية والدستورية والاهتمام بقضايا المواطن المتمثلة في العدالة الاجتماعية والامن والاستقرار والحالة الاقتصادية والمعيشية. الثورة فعل مجتمعي، وشباب ونساء المقاومة قلب المجتمع النابض، ولا ينبغي التقليل من مشاركة شباب المقاومة والنساء في صنع القرار السياسي، والمشاركة الحقيقية في كل مؤسسات الانتقال. إن الأزمة السياسية أعمق، فهي انعكاس للأوضاع الاقتصادية ولن تعالج الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الا بحل الازمة السياسية. إن الأزمة الراهنة شاملة لذلك لا ينبغي مخاطبة مصالح أطراف الصراع السياسي فقط وإنما إيجاد حل للقضايا والمصالح العليا للوطن. (4) هناك عدة مداخل لإيجاد حل للازمة أهمها: هناك من يعمل على خلق توافق سياسي بين الشركاء في وثيقة ميثاق سياسي موحد كمًا وفق نص اتفاق حمدوك البرهان، بمشاركة كل الذين دعموا الاتفاق بما فيهم المجلس العسكري، ومن المتوقع ان يوقع عليه خلال اليومين القادمين، هذا المدخل قائم على الشراكة السابقة. مدخل مبادرة اساتذة جامعة الخرطوم التي تعمل على تجميع الاجسام المطلبية والنقابية والمهنية والنسوية ولجان المقاومة في ميثاق وبرنامج وخارطة طريق وتحالف، هذا المدخل غير شامل كل أطراف الصراع وفيه إقصاء للقوى السياسية، يمكن معالجة نواقصها واشكالاتها في مبادرة مدراء الجامعات، وكذلك مبادرة جامعة الجزيرة والمركز الاقليمي لتنمية وتدريب المجتمع المدني. خريطة الطريق لاستعادة الشرعية واستكمال المرحلة الانتقالية، التي طرحها حزب الامة القومي، خاطبت القضايا بشكل واقعي، وإقترحت مائدة مستديرة تشمل كل الاطراف، ولكن البعض عاب عليها تسويقها وعرضها على المكون العسكري قبل موافقة القوى المدنية عليها، ومازال الحوار حولها مستمرًا، هذا المدخل من حزب له وزنه في الساحة السياسية وهو جزء من قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي التي تتبنى رؤية سياسية تتجاوب مع هذه الخريطة. تجمع المهنيين الذي انسحب من المجلس المركزي للحرية والتغيير، قدم مشروع ميثاق يتوافق تقريبًا مع المشروع الذي قدمه الحزب الشيوعي السوداني، هذا المدخل قائم على بناء تحالف بديل لإدارة ما تبقى من الفترة الانتقالية. لجان المقاومة ممثلة في تنسيقيات لجان المقاومة بالخرطوم، التي رتبت نفسها في شكل تنظيمي أفقي، واعلنت عن متحدثين باسمها، وأكدت على الحوار مع القوى الثورية الاخرى، وأعلنت أنها بصدد بناء رؤية سياسية، هذا المدخل جيد في سبيل إدماج لجان المقاومة في العملية السياسية. طرح المبعوث الاممي السيد فولكر بيرتس، رئيس بعثة يونيتامس في السودان، مشروع دعم وتيسير مباحثات بين كل أصحاب المصلحة (الحركات المسلحة، والأحزاب السياسية، والمجتمع المدني، والمجموعات النسائية، ولجان المقاومة)، للاتفاق على مسار مستدام للديمقراطية والسلام، يكتسب هذا المدخل أهميته من أنها مبادرة دولية بإشراف الاممالمتحدة. (5) كل هذه المداخل (المقاربات) تؤكد على أهمية الحوار كمدخل لمعالجة الازمة (الحل السياسي)، ولكنها تسلك طرق مختلفة، كل حسب تشخيصه للأزمة وابعادها وتداعياتها ومآلاتها. البحث عن توافق منقوص سيعقد الازمة أكثر ويصب مزيدًا من الزيت عليها، كما أن مسارات البحث عن توافق يشمل كل الفرقاء في مرحلة واحدة صعب للغاية اذا لم يكن مستحيلًا، لذلك من الضرورة بمكان انتهاج سياسة ادارة الازمة عبر خارطة الطريق في أربع مراحل هي: المرحلة الاولى: اجراء توافقات داخل الكتل الرئيسية وهي (المجلس المركزي، الميثاق الوطني، لجان المقاومة، وتجمع المهنيين والحزب الشيوعي، والمجموعات النقابية والمطلبية والنسوية والشبابية)، وتقديم رؤيتها السياسية. المرحلة الثانية: تحديد نقاط الاتفاق من كل الرؤى المقدمة في وثيقة "القواسم المشتركة"، وتحديد نقاط الخلاف والتباين في مسودة "الورقة الحوارية". المرحلة الثالثة: إجراء حوار سوداني سوداني حول القضايا محل الخلاف ممثلة في الورقة الحوارية عبر ميسر متفق عليه يمكن ان يكون وطني او اقليمي او دولي. المرحلة الرابعة: عقد مائدة مستديرة تضم كل أصحاب المصلحة في التحول المدني الديمقراطي للاتفاق على كافة قضايا الانتقال في ميثاق وخارطة طريق ومصفوفة التنفيذ تحت رعاية وإشراف يونيتامس.