نظرة ألمانية على موسيقي صلاح محمد عيسي مصعب الصاوي- كاميرا: غسان البلولة أمسية الثلاثاء التاسع من نوفمبر ألفين أثنى عشر أمسية جديرة بالتوثيق فأجواء الأمسية الموحية تحرض على ذلك المكان الأثري تماثيل الملوك على جانبي المسرح وكأن الحفل الموسيقي أقيم على شرفها وتحت رعايتها المباشرة، الأسود المروية وهي رابضة بين جانبي الطريق المفضي إلى فضاء النجيل الذي تناثر عليه الجمهور من كل الأجناس بعفوية..استعادت الخرطوم ألقها القديم زمان كانت الموسيقي جزءاً من طقس الحياة اليومي وكانت حدائق المقرن والأسكلة حيث أقيم الحفل رئة تتنفس بها المدينة بعد يوم عمل شاق ومنتج، كانت الخرطوم زمانئذ مدينة راقية متحضرة مدينة إفريقية بمزاج أوربي وروح سودانوية.. الآن أصبح إقامة مجرد حفل إجتماعي بسيط لرابطة من الخريجين يمر عبر بوابات معقدة من الإجراءات وللمفارقة فإن أولى خطوات التصديق تبدأ "بجنايات الشرطة" كأن من ينظم مناسبة ثقافية يرتكب جناية في حق هذا الشعب يا سبحان الله. =الفرقة الألمانية بدعوة من معهد جوتة الخرطوم قدمت فرقة "ليبي ديربيا" من مدينة منهايم بألمانيا من أجل تحقيق التواصل وتبادل التجارب الموسيقية مع الآخر مما يسهم في ربط الحضارات لا سيما وأن الموسيقي لغة عالمية عابرة للحدود واللغات وهي ضمن المشتركات الإنسانية التي يعول عليها في بناء الثقة والتفاهم والحوار المثمر. "ليبي ديربيا" تعني حرفياً "على شاطئ المحيط" والمعني المجازي أو الرمزي للكلمة هو المكان الذي يلتقى فيه عالمان: عالم الموسيقي الغربية في إتصالها بالموسيقي الشرقية، توليفة المنظومة الادائية للفرقة تمزج بين اللون التركي- الألماني الذي تعود جذوره إلى حي "يونقبوش" بمدينة منهايم ذات الثقافات المختلفة ومن المعلوم بالضرورة أن هذا الجزء من ألمانيا شهد هجرات مشرقية قديمة كذلك هجرات من جنوب أوربا كان البحر والماء وسيفها وملهمها، هناك يعيش منذ خمس سنوات عازف القانون "موهيتين" الذي يمتاز بمعرفته العميقة بالعزف على آلة القانون وهذا العالم من الألحان جذب إليه عازف الإيقاع "يوس تميل" الذي يعزف على كل الإيقاعات الشرقية سواء البلدان العربية أو ايران أو تركيا والتي تتكون من المزهر، التمباك، الرق، الدربكة، أثناء دراسة الموسيقي بكلية الموسيقي بمنهايم تم اللقاء بين عازف الطرمبة يوهني ستانجة وعازف الساكسفون شتيقان باومان وهما ينتميان إلي طليعة عازفي موسيقي الجاز بالمنطقة رويداً.. رويداً بذات العلاقة تتوثق بين هؤلاء الموسيقيين الأربعة بما في تجاربهم من ثراء وتنوع مما أثمر عن ولادة ثقافة موسيقية جديدة في حي "يونقبوش" بمدينة منهايم، عمل المجموعة الموسيقية يمزج بين فرادة الهويات الأصلية وإنسجام الجهد الجماعي بحيث يضع الفرد بصمته في إطار المجموعة وترتفع المجموعة بالعازف إلى مصاف العقل والروح الجماعي. =الجاز الشرقي تقدم فرقة ليبي ديريا الزائرة صنوفاً من الجاز الشرقي وتحلق بالمستمع في عوالم من الشعر الغنائي والإيقاعات السريعة من عوالم موسيقية تأثرت بموسيقي الحجرة وموسيقي الفولكلور وغيرها من الألوان الشعبية التي تعكس تقاليد أدائية لموسيقات أتيح لها أن تتعارف وتأتلف على شاطئ الحوار الموسيقي الإنساني، يذكر أن الجاز الشرقي كلون مشرقي أوربي سائد ليس وقفاً على ألمانيا فحسب بل في جنوبفرنسا وفي حزام الساحل الفرنسي المطل على البحر الأبيض المتوسط متأثراً بالهجرات المغاربية التي نقلت جزءاً من الإيقاعات الصحراوية ووطنتها في موسيقي القالس الفرنسية الريفية خصوصاً والجاز الشرقي الفرنساوي يختلف عن موسيقي "الراي" ونجومها المعروفين شاب خالد وشاب مامي إذ ازدهرت في المدن ذات التجمعات العمالية أكثر من إنتشارها في الحواجز الكبيرة كباريس ومدينة نيس. =الحفل الموسيقي: قدمت الفرقة نماذج من الإيقاعات النوبية بمشاركة عازف الإيقاع المجود "مجدي مشمش" وسليمان على الكنفا والبيركشن والطار النوبي كما هو معروف فيه لون غنائي عاطفي يختلف نسبياً عن اللون الصوفي التقليدي المعروف في شمال وأواسط السودان دون أن يلغي هذا استخدام الطار في الموسيقي النوبية الشعبية لأغراض دينية طقسية كوداع واستقبال الحاج إلي بيت الله الحرام أو زفة العرس مع ترديد الصلاة على الرسول صلوات الله وسلامه عليه يلازمه تتكرر هي "علي النبي صلينا علي النبي صلينا" يعتبر الموسيقار العالمي حمزة علاء الدين من أكثر الفنانين شهرة في توظيف الطار والبحث في تأثيراته الحضارية الموسيقية وإستخراج أنغام دقيقة ومعبرة من هذا الآلة الشعبية. =التخت والموال تستخدم الفرقة إسلوب التخت الشرقي في جعل الآلات الإيقاعية الرق والدربكة خلفية يؤسس عليها طابع الموال الشرقي باعتبار الآلات الموسيقية الإيقاعية هي عامل الإرتكاز ويترك لآلات النفخ الساكسفون والطرمبة مصاحبة هذه الخلفية عبر إرتجالات تصاعدية هي طريقة التنغيم في الموال بمعني آخر استبدال الآلة بصوت المغني بشكل تبادلي توافقي. =القانون يغني: عازف القانون كمال تمل قدم تقاسيم رائعة على آلة القانون من مقامات الرست والمصمودي والعجم وقد إنسابت موسيقاه كأمطار أول الربيع دافئة وناعمة مفعمة بالشجن والذكريات تنوعت التقاسيم بين اللون المصري التقليدي والتركي المشرقي والفارسي العرفاني بجانب بعض الأدوار المكتوبة للتخت من الأندلسيات والأدوار الطربية "ياليل يا عين"، "والزهر مال والند فاح من خده سال" وهو من الأدوار الكلاسيكية التي جددت عصر عبده الحامولي وفريد غصن الموسيقار والعواد المصري الأشهر وعازف القانون تركي سليم وهو من سلاطين العزف على هذه الآلة استطاع كمال تمل أن يستعيد هذه الأجواء والمناخات فبلغت بي السلطنة أقصى درجات الوجد إلى مقام "راحة الأرواح" وهو من المقامات الصوفية في الموسيقي الشرقية. =نظرة على صلاح محمد عيسي: قبل أن تغادر الفرقة الألمانية المسرح ألقت نظرة تحية وإعجاب بتراث الموسيقي السودانية الحضرية ممثلة في أحد أيقوناتها الفنان صلاح محمد عيسي تحديداً أغنية: نظرة وبسمة غيرو حالي لا قادر انت تحن ولا ترحم حالي انت ما تعطف علي يا غزالي. هذا العمل الفني المجود وجد إستقبالاً هائلاً من الجمهور وفنياً أعتمد على مرجعات مزجت بين الوتريات منها العود "عوض أحمودي" والقانون وتجاوب آلات النفخ يوهنس ستانجه وعازف الساسكفون شتيفان باومان تعديل طريف وطفيف تم على إيقاع الركوز فبدأ أشبه بميلودية الريقي جاز حوار بين الآت النفخ والوتريات عازف الساكسفون حاول الإقتراب من إحساس الكلارنيت حتي يعطي اللحن العذوبة والرومانسية المطلوبة واشتغلت آلات البيركشن والإيقاع كخلفية طروبة لهذا الحوار القديم المتجدد بين عالمين اللحن الراقص والمرن لأغنية نظرة وبسمة فيه سعة تسمح بالإرتجال والتجريب على تنويعات اللحن الأساسي وهذا ما فعله بالضبط عوض أحمودي على العود وأعانته عليه الأوركسترا حيث تقمص العود صوت صلاح محمد عيسي وهو صوت براق حريري. تضافرت لخلق هذا الفضاء الجمالي عدة جهات مجموعة دال، وزارة الثقافة والإعلام ولاية الجزيرة، فندق كورال.. شكراً لهم جميعاًَ بقدر ما منحونا من حضور وبهاء.