هي الأيام التي تقبل فيها الحياة بالبِشر والترحاب فتنفتح أبواب مغلقة وينساب الضوء فينير الطريق. وهي عادة عند استلام وظيفة او بداية عمل خاص واعد أو تكوين أسرة أو استقبال مولود جديد أو خليط من هذا وذاك وتلتصق ذكرياتها في الذاكرة زماناً طويلاً وربما للأبد. أول هذه الأيام الجميلة التي تخطر بالبال حين توجهت إلى وزارة التربية والتعليم للالتحاق بها معلماً بالمدارس الثانوية. كانت الوزارة تواجه النيل الازرق من جهة الجنوب بين "كبري القوات المسلحة" و"كبري بحري" القديم ومنها كانت تُدار كل المدارس في السودان مركزياً. توجهت لمكتب "الثانوي" وكان يديره ثلاثة فقط الاستاذ حمزه مدثر والأستاذ عبد الرؤوف والأستاذ عزيز. الاستاذ حمزة وهو المسؤول عن التوظيف بعد ان تفحص شهاداتي جيداً اخطرني على الفور بأنه قد تم قبولي للعمل معلماً للغة الانجليزية بمدرسة "النيل الازرق الثانوية" بمدني. اختلطت الفرحة برائحة القهوة النفاذة التي كان يرتشفها الاستاذ حمزة باستمتاع واضح ثم قام بتجهيز خطاب التعيين مع منحي سلفية خصماً على الراتب استعين بها على تجهيزات السفر. يوم الجمعة عصرا توجهت إلى موقف بصات مدني وكان مكانه غرب سينما الخرطومجنوب وهنالك التقيت صدفة بأحد زملاء الدراسة الثانوية هو الأخ محمد يوسف عبدالله الكارب من ابناء مدني فاعتبرتها فألاً طيباً. اخترت بصات "المؤسسة الوطنية" وهي شركة تتبع للدولة وكانت الأفضل وقد ادارها في فترة ما ابن عمي المرحوم "الحبر الخليفة بركات" وكانت التذكرة لمدني بخمسين قرشاً فقط اي نصف جنيه !!! وصلت مدني بعيد المغرب بقليل فوجدت الزملاء الاساتذة الاخوان عبدالله ابراهيم وفضل المولى وعبد الوهاب في الداخلية ينتظرونني وقد جهٌزوا لي غرفة خاصة وقد أحسنوا استقبالي مما بعث في نفسي الراحة والطمأنينة. في الصباح الباكر توجهت لمكتب المدير وكان حينها الأستاذ الجيلي احمد المكي الذي احسن استقبالي ايضا بعد ان عرف اسرتي واصولي فهو ايضاُ مثلي ينحدر من صلب احد الصالحين هو "الشيخ مدني السني" مؤسس مدينة ود مدني. وهكذا بدأت مرحلة جديدة في حياتي واياماُ طيبة قضيتها هنالك بين اهل مدني الكرام ووسط كرم الخالة فاطمة احمد يوسف الشهيرة ب"البُن" وبناتها وابنائها "السني" و"الشيخ ادريس" الذي كان لاعباً مشهوراً في فريق "الهلال" العاصمي آنذاك و"حميدة". حيا الله مدني وأيام مدني ورحم الله خالتنا فاطمة فقد احتضنتني كأحد أبنائها تماماُ. كانت الأيام الطيبة التي تلي هذه، هي الفترة التي تقدمت فيها للالتحاق بشركة "ارامكو السعودية" . كانت مكاتب الشركة تقع في شارع البرلمان الضيق ملاصقة ل"شركة الشاي السودانية". ويديرها المرحوم "حسن الخضر" والإخوان مجدي وعادل. جلسنا في البداية لامتحان قاس (Mitchgan Test) وهو اشبة بال (TOFEl)ونحن مجموعة تربو على المائتين لم يتحصل فيه على الدرجة المطلوبة الا اقل من ثلث عدد المتقدمين. بعد ذلك طلبوا منا كتابة مقال باللغة الإنجليزية عن سبب اختيارنا لمهنة التدريس وقد كنت صادقاً منذ البداية فقلت انني نشأت بين يدي معلمين فوالدي المرحوم الشيخ ادريس الخليفة كان من الرعيل الأول للمعلمين وقد كان أول مبتعث مع الاستاذ سرالختم الخليفة لتدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية في الجنوب أوائل الخمسينات بينما كانت والدتي المرحومة فاطمة احمد عبدالحكم تعمل متطوعة في فصول محو الأمية في العيلفون وبالتالي فقد كان التعليم بالنسبة لي رسالة وليس مهنة فقط. بعد اجتيازنا لهذه المرحلة ونحن حوالى نصف الناجحين في الاختبار الأول دخلنا المرحلة الأخيرة وهي مرحلة المقابلة الشخصية. واجهنا أسئلة صعبة عن طرق التدريس وعن تجاربنا في المدارس التي عملنا بها وكان الممتحنان من كبار موظفي قسم التدريب في الشركة أحدهما هو الاستاذ "الياس معتوق" الذي اختارني للعمل معه في "مركز تدريب رأس تنوره" بعد ذلك ومن هنا بدأت مرحلة جديدة في حياتي اسميها مرحلة "ما بعد النفط" فقد رأينا فيها الدولار ابو صلعة والريال ابو عقال عياناً بياناً وبذلك تغيرت حياتنا تماماُ فامتلأ العود واعتدل. من طرائف تلك الايام اننا كنا نقرأ اسماءنا على البورد والمخطوطة باليد بصعوبة بالغة فالطريقة الأمريكية في كتابة الحروف مختلفة تماما (cursive) وهي تختلف عن طريقة الانجليز (manuscript). وهكذا شددنا الرحال إلى أرض الحرمين حياها الله وحباها بمزيد من النعم والأمن والأمان. الأيام الطيبة التالية كانت بداية تعرفي على اوروبا اذ ابتعثتني الشركة في كورس اسمه ( Language and Language Teaching Methodology ) اي عن اللغة الانجليزية وطرق تدريسها. كنت ارى اوروبا فقط في التليفزيون والآن اتيحت لي فرصة مشاهدتها "كفاحاً". كان الكورس ينعقد في جامعة "كامبردج" وهي من أعرق الجامعات في العالم وكان مكانه هو كلية " New Hall " التي قالوا لنا ان الامير شارلس(الملك حالياً) قد تلقى دراسته الجامعية فيها. كان هذا مما ادخل البهجة والسرور في نفوسنا اذ شعرنا اننا نلامس نفس المقاعد التي تشرفت بملامسة جسد احد ابناء ملوك اوروبا وهذا من دواعي الفخر والاعتزاز. أول ما لفت نظري هو الخضرة "العاتمة" التي تشابه السواد والنظام الدقيق والصفوف المتراصة امام اية خدمة والناس الذين يسرعون إلى اعمالهم في همة ونشاط. من طرائف تلك الأيام انني في أول يوم لي في الكورس ان وجدت قريبا من مكان انعقاده قاعة بداخلها أناس يتناولون افطارهم فدخلت مثلي مثل الآخرين وبدأت في "تحميل" الصينية بما لذ وطاب من حليب وزبدة ومربى وبيض و"توست". وسط هذه المعمعة لاحظت ان الموجودين رجالاً ونساء اكبر سناُ وأكثر اناقةُ اذ كانوا يرتدون كلهم بلا استثناء البدل الكاملة والكرافتات الأنيقة فانتبهت إلى انني ربما أخطأت المكان!!!. جلت ببصري هنا وهناك حتى وجدت لافتة صغيرة ترحب بالمشاركين في مؤتمر لا اذكر اسمه الآن ولكنه لا يخصني بأية حال. شعرت بالحرج فتسللت ببطء نحو الخارج وقد تركت الإفطار الذي اخترته في مكانه. الطريف في الأمر ان الجميع قابلني بابتسامة حين دخلت وودعني بابتسامة حين خرجت فشعرت انني أمام شعب عظيم يمتاز بالتهذيب والذوق الشديدين. الأيام الطيبة التالية كانت في مدينة "ضبا" وهي مدينة سعودية ساحلية بها ميناء كبير ومركز لتوزيع منتجات شركة أرامكو من بترول وخلافه. كانت مهمتي هي تدريس اللغة الانجليزية للموظفين والفنيين التابعين للشركة وقد كانت تلك فرصة طيبة لأشاهد ذلك الجزء من المملكة لأول مرة. اخترت منذ البداية فندقاً انيقاً للإقامة فية وكان قريباً من "مركز التوزيع" حيث اعمل وقد استقبلني مدير المحطة والعاملون فيها استقبالاً طيباُ اراحني نفسياُ وبعث في دواخلي الهدوء والاطمئنان. وجدت الدارسين جلهم من كبار السن نسبياً والذين لم يتلقوا تعليماً نظامياً متقدماً ولكنهم كانوا متحمسن للغاية خصوصاُ وان النجاح في الاختبارات يرتبط مباشرة بالترقيات للدرجات الأعلى. اكثر ما استهواني في "ضبا" هو وفرة الأسماك التي احبها جدا والتي كانت تقدم في شكل وجبات متنوعة ولا أبالغ اذا قلت انني كنت اتغدى يومياُ وطيلة فترة اقامتي في "ضبا" بالسمك مع أرز "الصيادية" وهو من أشهى انواع الأرز المطبوخة. كان الاختبار النهائي هو التحدي الأكبر بالنسبة لي وبالنسبة للدارسين على السواء فلذلك لجأت لطريقة قديمة كنا نستخدمها عندما كنا طلاباً في مدرسة العيلفون الأولية والوسطى وهي طريقة المذاكرة في مجموعة. وضعت جدولاً لذلك فكنا نذهب كل أمسية لمنزل أحدهم او مزرعته لمراجعة المقرر وقد كان ذلك امراً مثيراً وطريفاً جداُ خصوصاُ للابناء الذين كانوا ينظرون لآبائهم وهم يحملون الكتب في طريقهم للمذاكرة وقد حكوا لي كثيرا من الطرائف في هذا الخصوص. اثمرت مجهوداتنا وتكللت بالنجاح فقد أحرز كل أفراد المجموعة درجات مشرفة ولم يرسب احد برغم العوائق من انقطاع عن الدراسة لفترة طويلة ومعاناة بعضهم من أمراض مزمنة مثل السكري والضغط وقد احتفظت بنتيجة اختبار تلك المجموعة لفترة طويلة ولا ادري ان كانت موجودة معي حتى الآن ام لا فقد تنقلت بعدها في أماكن كثيرة. وان انسى لا أنسى تلك الوجوه الطيبة التي استقبلتني بالبشر والترحاب وودعتني بالدمع السخين ومنهم اخونا محمد علي القصير الذي ما زلت اذكره على وجه الخصوص فقد كان صحفياً في بداياته يكتب في صحيفة "الاقتصادية" والإخوان عبدالمحسن وفهد والبوق وآخرون أكارم. هذه لمحات من أيام طيبة عشتها ومازال طعمها في فمي كأنها الأمس القريب حياها الله وأعاد بعضاً من ألقها وبهائها وسلامتكم.