الحرب قاسيةٌ ومُرهقةٌ، أضافت سنوات إلى أعمارنا بأثقال من خليط القلق والترقُّب واليأس والرجاء، ساعة وساعة، لكنها والله العظيم ما قتلت أو أطفأت شمعة الحياة وما قطعت وريد الدم المقوي للنبض. نعاني نعم فرضيات الموت والأذى أرجح من السلامة وكلها أقدار الله، لكن فيما أرى لم تدفن أرواحنا في الركامات. المساء عندنا خاصة مع انقطاع الكهرباء مساحة لطقوس التأمُّل. القائم على دروس الصبر القوي على الظلام وارتفاع الحرارة. وانعدام النسيم الذي مرات يعطف بأمر الله فيرسل نفحةً نتلقّاها بالشكر النبيل. وكما قلت الناس لا يزالون هم أنفسهم. يتقون على مراهق اللحظات بكثيرٍ من العشم، الضحك والطرافة وإيمانيات اليقين والرضاء. نتزاور، نتفقّد المريض والجريح المقنوص أو المقضوم بقذيفة. أكثر من هذا، الناس تشق المسافات للتعازي. لا يزال النسوة ينحن على الموتى حتى للغرباء الذين يلتقطون من قارعة الحتوف، صارت بعض مُنعطفات الحارات وزوايا الجدران مقابر! حيث يساس اللحد في شق على مسارات النهارات، ويكون الشاهد ظلال الأكف بالدعاء. في حالنا هذا، لا تزال بعض اللحظات يتسلّل منها صوت مُغنٍ. لاحظت كثيراً كأنما كل موروث حقيبة الموسيقى عندنا نسجت غيباً من القديم لهذه اللحظة. الناس كلما سمعوا صوتاً يغني ينصتون، يعلوهم شجنٌ غريبٌ. صدق ذاك المصري الذي كتب عن بكاء حشد من السودانيين لحظة سماعهم أغنية أدارها ليسري عنهم. هنا في قلب الخرطوم الحال ذات. غير مرة سمعت صائحاً يطلب وقف الأغنية، لأنه على وشك التداعي. أكتب الآن والمآذن ترفع صوتها للسماء، كأنه ترسله فوق مدى المضادات! أصوات كأنها ضاعفت صوت قوتها وصداه. ورغم المحاذير نتدافع بعد قليل للصحون والمحاريب. سكينة الصف الذي تقلّص كأنها توقينا لبقية الليلة ومطلع الصباح، حيث يسلمنا (العشاء) لبشارة (الفجر). لا يزال الناس فيهم ذاك التواصل المدهش. أمس بعد الثامنة طرق جاري الباب. حينما خرجت والرجل من أهل دار تنبت النخل والقصيد والنشيد. قال لي افتقد ضجيج حركتك فأتيت أتفقدك. قالها وهو يدفع لي بأبناء عتيق (كورية) مغطاة بإحسان. قال تذوّق هذه البليلة العدسية. ثم اعتذر بلطف ما قدرت اظبطها بمحسنات فتقبلها هكذا! أصررت عليه ليدخل فاعتذر بشدة. عدت للداخل. التقطت من ذاكرة جوالي بعض أغانٍ أستمع وفمي يتلقى الحبيبات المباركة. هذه الأزمة قد تكون أوجعتنا في كثير، لكن لا نزال كلما تشتد نشتد على أنفسنا قرباً وتماسكاً. نحن بالخير أقوى من ظلامات الموت والفجيعة لكنه سينتهي وسنعود.. سنعود. حتى إن متنا سنكون فيمن بقي، نحن هم وهم نحن… لن تهزمونا.. قد تقتلونا لكن لن تهزمونا. المقطع أظنه من أهل شمبات وصحّحني البعض أنه من توتي، شكر الله صانعه وناشره. نشلته من صفحة عززت عندي ما أؤمن وأظن.