قصص الحرب من قلب الأحداث في سوريا!... كيف نجونا مما يعرف ب"الشبيحة"! رفيدة ياسين بدأت إحدى سيارات الجيش التركي تقترب، بينما كنت عالقة في السلك الشائك للحدود، لا أنا في سوريا ولا أنا في تركيا، ولا كنت أعلم آنذاك إلى أين سينتهي بي المطاف في هذه الرحلة...!توقف عقلي عن التفكير... ولم أكن قادرة إلا على الاستسلام لما هو قادم بلا مقاومة فقد أرهقني حقا ما لاقيته طوال اليوم ولم يعد بوسعي احتمال المزيد. فوضت أمري إلى الله، ولجأت للتراب الذي بقيت عليه بلا حراك وأنا عالقة..لا أرى لا أسمع لا أتكلم للحظات حتى انتهت تلك اللحظات العصيبة، فالليل كان "ستّارا" ومرت العربة بسلام دون أن يلاحظني أحد ربما الأشجار المنتشرة في هذه المنطقة لعبت دوراً في تشتيت الأنظار. انتظرت لدقائق حتى لملمت أعصابي المتناثرة في أرجاء المكان، وتمالكت نفسي من جديد، بعدها ظهر من اختفوا وتركوني وحدي وعاودوا مساعدتي على العبور مرة أخرى.. محاولاتهم هذه المرة باءت بالنجاح فقط خرجت منها بخرق ملابسي في أكثر من جهة. استقبلني زملائي على الحدود، بعلامات النصر.. نعم النصر فالنصر في مجالنا هو تغطية ما يجري في سوريا والوصول لقلب الأحداث ومن ثم العودة بأقل خسائر ممكنة، وكعادتنا تبادلنا التهنئة بالعودة سالمين، دون الخوض في كثير حديث، فكلنا يعلم أن القادم من هناك ليس بحاجة لشيء سوى الارتياح من عناء التفاصيل ولو لبعض الوقت. بابتسامة تعيد للحياة رونقا وإن كان لحظيا..جاءتني فطومة الطفلة السورية الجميلة ابنة الخمس سنوات، التي اعتدت لقاءها قرب المخيم وعناقها كل يوم عند الحضور إلى الحدود ومغادرتها...بين يديها الصغيرتين عالم كبير من الأحضان الخضراء، ومن عينيها الزرقاوين تطل براءة تذكرني بقول محمود درويش بأنه ما يزال على هذه الأرض ما يستحق الحياة. سألتني فطومة وكأن مظهري الذي عدت به يحكي ما لاقيته دون الحديث: "كنتي في سوريا ما هيك...؟.. اجبتها نعم، فقالت: "من شان الله المرة الجاية خديني معك اشتقت لضيعتنا كتير"، لم أتمكن من وعدها واكتفيت بإبلاغها أنه سيأتي اليوم الذي تعود فيه لبلدتها، فارقت فطومة بقبلة على جبينها، وقد حولت خريف يومي لربيع لم يدم طويلا ويبدو أنه ارتبط بحضرتها فقط. قضيت ليلتي أصارع الأرق في الأراضي التركية ببلدة غازي حيث اُقيم، فكان إنهاكي النفسي يفوق الجسدي بمراحل.. حاولت استراق بعض الوقت للنوم بعيدا عن ذاكرتي التي تعج بأحداث يوم عنيف، استيقظت في الصباح الباكر...كان الجو ماطرا، لسعات شتاء برد تركي حاصرتني لم تتمكن نار المأساة في دواخلي من التغلب عليها، ولا دفء كوب الشاي الأخضر الذي أتناوله كل صباح، ففضلت البقاء بالفندق لإنجاز ما قمت بتصويره من عمل في رحلتي إلى سوريا وقد كان، لكن ما أن انتهيت وأخذت قسطا من الراحة إلا وبدأت أفكر في التخطيط للذهاب إلى سوريا مرة أخرى والاستفادة من أخطاء رحلتي الأولى. وجهتي هذه المرة إلى سوريا كانت عبر مدينة أنطاكيا جنوبي تركيا، حيث الطبيعة الخضراء الساحرة، على نهر العاصي والتي يتجلى كبرياؤها عند سفح جبل سيلبيوس وتبعد المدينة حوالي أربع ساعات برا بسيارة "حمولة" عن مكان إقامتي في غازي عنتاب. قررت أن تكون رحلتي من هناك لشمال سوريا بلا مهربين رغم هروبي مرة أخرى، فاستعنت فقط بأبناء المنطقة من البلدين الذين يعرفون طبيعة هذه المنطقة الجبلية والتنسيق مع رجال الجيش الحر عند الوصول. أخذني من اخترتهم رفقتي إلى قرية غواتشي التركية، ظللنا نمشي مسافة ساعتين ونصف سيرا على الأقدام في طرق وعرة عبر الجبال.. نرى من بعيد أدخنة سوداء تتصاعد في السماء جراء القصف العنيف لطائرات الأسد على بلدات سورية عدة، لم يكن هناك انتشار كبير للأمن التركي في تلك المنطقة، وربما وجود أبنائها معي ذلل عقبات مرور الحدود عبر ممرات آمنة. الطريق كان زاخرا باللقاءات، فخلال مسيرنا بين الأحراش لاقينا عشرات النازحين الفارين من هول الاشتباكات في منطقة جسر الشغور في طريقهم إلى الداخل التركي بحثا عن فرصة للجوء يبقى بالنسبة للكثيرين منهم خيارا يقيهم أخطار الحرب وإن كرهوه.جاءوا وهم يحملون همومهم وما تبقى لهم من أغراض. كان الغالبية منهم أطفال ونساء وكهلة ساروا لمسافات طويلة في طريق نحو المجهول، فقد يمنعهم رجال الجيش التركي الدخول إن صادفوهم، وقد يصلون ولا يجدون مكانا لهم في المخيمات.. فيبقون في العراء بين صفوف انتظار ليدعوا من أي جهة لا يأبهون كالآلاف الذين يعيشون في المخيمات المؤقتة على الجانب السوري من الحدود بين البلدين وإن كانت الأولى بلادهم التي طردتهم خوفا من الحرب، فالثانية هي الملجأ الذي لم يتمكنوا من الوصول إليه. كان أبو عبد الله ذلك الكهل الذى تجاوز الثمانين خريفًا من العمر، يتوكأ على عصاه علها تعينه على مصاعب ما قد يلاقيه خلال الطريق استهل حديثه إلى متسائلا: "عليش ها التعب كله واحنا ما بنعرف الطريق طريقنا وع كتير يا بنتي وما بنعرف ايش سوينا من شان يخلونا نترك ديارنا وبلادنا واحنا بها العمر، ما بحكي عحالي كيف ما تشوفي معنا نساء وصغار ما بيحملوا هالعناء ايش ذنبهم هادول يا بنتي ايش ذنبهم ووين العالم من اللي بيديروه فينا..؟ وين حقوق الانسان يابنتي...؟!، لم تكن لدي إجابة لأقولها له فما كان مني إلا ساعدته لكي يرتاح أرضا من عناء الطريق، واتجهت لسيدة ثلاثينية برفقتها ثمانية أطفال في أعمار مختلفة قالت لي: "ما تسأليني الله يخليكي ويش فيني، أنا فيني اللي مكفيني وزايد ويمكن يكفي بلاد ومن كتره والله ما بينقال وما بدي شي غير بس اولادي ما يموتوا "، عذرتها لطريقة حديثها فبكاء طفلها الرضيع الذي تحمله على كتفيها، وصراخ أخته التي تكبره بما يقارب العامين إضافة لألف ألف كلمة شكوى وسؤال من بقية أطفالها. كان كفيلا لشرح حالتها واستيائها من الكون بأسره. حاولت مع غيرها، فكان الكثيرون يخافون مما يمكن أن يحل بهم مما وصفوه من بطش الأسد ورجاله إن ظهروا في وسائل الإعلام. قررت فراقهم لكن صوت إحدى السيدات دفعني للبقاء لسماعها وهي تقول: "بتريدي تعرفي ليش احنا جينا هون.. انتي بتعرفي" وواصلت: "إيه بتعرفي.. يعني ما بتعرفي إنه بيرموا علينا البراميل المتفجرة وإنه بيقصفوا بيوتنا بالطائرات، معقول ما بتعرفي إنه بيقتلونا وبيقتلوا صغارنا بلا سبب، والله بتعرفي وحتى لو ما بتعرفي شو راح تسويلنا ؟؟؟ راح توقفي الحرب؟؟ راح تآويينا؟؟ كلكم بتاجروا بقضيتنا انتو الإعلام وما بتقدمولنا شي". لم أعلق على ما قالته تلك السيدة فبعض كلامها صحيح؟؟ ليس بيدي وقف الحرب، وأعلم غالبية ما يجري لهم، لكني جئت إلى هنا وحاولت معايشة ولو بعض تجاربها لأعرف أكثر..ولكي تكون الصورة التي أنقلها أصدق من تلك التي تردني من وكالات الأنباء ويمكنني استخدامها وأنا جالسة على مكتبي المكيف وأكتب وأنا أرتشف من فنجان قهوة ما يعينني على التعامل مع المآسي كمواقف عابرة، ومع القتلى كمجرد أرقام عابرة إلى إحدى النشرات...! تركتها ومضيت حزينة لأن ما قالته عن متاجرة الكثيرين بقضيتها صحيح، ولأنني أعلم من الحقائق ما لا يقال، رغم كل محاولاتي البحث عنها ولو كلفني ذلك حياتي. لكن تلك السيدة لا تعلم أن سرد كل الحقائق قد لا يسمح لها ولغيرها الوصول إلى بر آمن، وقد.. وقد... وقد...! واصلنا سيرنا إلى الداخل السوري لنصف ساعة أخرى كنا نستمع فيها لدوي انفجارات يهز الجبال التي كنا نسير خلالها ولا نعلم مصدره، خلال الطريق رأينا آثارا منتشرة لقواعد إمداد خلفية يبدو أنها للجيش السوري الحر من خلال ألبستهم الملقاة على الأرض، بعض الخيام لا تزال منصوبة، وبها بقايا طعام وجوالات للطحين وأحذية بما يشبه (البوط) وأسلحة بيضاء...! تقدمنا قليلا بعد أن قمنا بالتصوير، فالتقينا بأحد عناصر الجيش الحر قال لنا إن هذه المواقع بمثابة خطوط إمداد خلفية بالفعل يلجأون إليها بعد عناء معارك ضارية مع رجال الأسد قبل سيطرتهم على غالبية البلدات التي باتوا يسيطرون عليها كما يقولون. حذرنا الرجل من الاستمرار في ذات الطريق لما وصلهم من إشارات ومعلومات عن كمين مرتقب لما يعرفون بالشبيحة يمكن أن تحدث خلاله اشتباكات عنيفة وتراق فيه الكثير من الدماء، فكرت لوهلة في طرح اقتراح على من كانوا معي بتغطية هذا الحدث، فقد كنت أتمنى رؤية الشبيحة على الطبيعة وربما الحظو بسبق معركة، لكن الحسم الذي سأل به زميلي المصور عن الطريق الآخر لغى كل محاولاتي لإقناعهم، فهو يعرف تماما ماذا أريد..؟ وكيف أفكر...؟ قرار الجماعة فرض علي الاتجاه إلى الطريق الآخر الذي أرشدنا إليه أحد عناصر الجيش الحر، بالتنسيق مع أفراد كتيبته للقائنا هناك. بالفعل ذهبنا معهم إلى بلدات منطقة ريف جسر الشغور وهي بكساريا وعين البيضا وخربة الجوز وغيرها من البلدات التي يسيطر عليها الجيش الحر. شوارع تلك البلدات تحكي قصص معارك لم يمر عليها وقت طويل، فرائحة الموت تزكم الأنوف في كل مكان، ولا تزال الشعارات المؤيدة للأسد باقية على جدرانها رغم انتشار علم الثورة بين مبنىً وآخر من المباني القليلة التي صمدت وسط كل ما يخيم بها من ركام وأنقاض...! لا كهرباء في هذه البلدات..ولا ماء إلا من القساطل الموجودة في أطراف كل بلدة، أما الطعام فيقتصر على ما تخبزه النسوة من الطحين القليل الذي يحضره لهن الجيش الحر لإطعام أطفالهن ورجال الحي. بين نارين تعيش هؤلاء النسوة نار الخوف ونار الحاجة، كانت إحداهن تخبز على فرن صغير بجوار بيت مهدوم، وهي لا تدري أي نار تُسوِّي عجينها، اقتربت منها لأتحدث إليها فرفضت، كما رفض غيرها لأن غالبية البلدات التي نزحوا منها لم يُحسم فيها الموقف لأي من أطراف النزاع بعد. أبلغتها أنني جئت إلى هنا لمساعدتها وسجلت لها وعدا بعدم القيام بما يمكن أن يؤذيها فاتفقنا أن أخفي وجهها قائلة والدموع تترقرق من عينيها: "والله لو شافوني بيقتلوا اولادي بيكفي مات زوجي ما باقيلي غير أولادي، وهما قوة واحنا ضعاف بس تكالنا على الله" حاولت طمأنتها مرة أخرى بأنها مثل أمي ولن أخلف وعدي معها أبدا، اطمأنت إلي نسبيا فذكرت أنها نزحت من جبل الأكراد إلى هنا لأن الجيش الحر يسيطر على هذه المناطق التي يجدونها أكثر أمانا من غيرها وإن لم يكن ذلك كافيا للشعور بالأمان كما روت لي، فطائرات النظام تقصف المباني بين وقت وآخر واحتمال الخطر يبقى موجودا لكنه أقل من ضيعتها على حد قولها، سألتها عن الوضع في جبل الأكراد وأبلغتها أنني أفكر في الذهاب إلى هناك لكني تفاجأت بردة فعلها إذ احتضنتني وظلت تبكي بحرقة لا أعرف سببها وما إن هدأت قليلا إلا وقالت: "انتي مش قلتيلي إني مثل أمك بالله عليكي لا تروحي هونيك أكيد أمك بنتطر رجعتك ارجعي لأمك يا ابنتي اسمعي كلامي لا تروحيلها خبر الله يرضى عليكي ارجعي" اختتمت حديثها ويد تمسح دموعها المتساقطة والأخرى تربت بها على كتفي. ذهبت أتجول في المنطقة لرصد الأوضاع هناك ولقاء أناس آخرين فإذا بشابة عشرينية تقلب الملابس في مياه ساخنة حد الغليان موضوعة في إناء فوق جمرات الفحم، بينما تحاول إبعاد صغيرها الذي لم يتخطى العامين عن نار الفحم، سألتها عما تفعل قالت لي إن هذه وسيلتها الوحيدة لغسيل الملابس، اسمها أم أحمد زوجها انضم لصفوف الجيش الحر، روت لي أنها جاءت من جبل التركمان بسبب الاشتباكات العنيفة الدائرة هناك، أما عن حالها هنا فقالت إنها تفترش الأرض لتنام كل ليلة وهي مسكونة بالخوف، وأنها لا تزال تحزم حقائبها استعدادا للرحيل في حال تجدد أعمال العنف في هذه المنطقة، فالجيش السوري عندما يحاول استعادة منطقة تمكن الجيش الحر من السيطرة عليها يكون أكثر شراسة من أي وقت مضى..! خرجت من لقاءاتي من النازحين في الداخل السوري ببؤس الحال، ونقص المعونات مع حلول فصل الشتاء، ومن لقاءاتي بقيادات الجيش الحر في هذه الأماكن خرجت بشكاوى متكررة بنقص الذخيرة أو وصول أسلحة فاسدة عن طريق بعض محاولات الاختراق لصفوفهم من قبل من يصفونهم بالمندسين ممن يدعون أنهم انشقوا من صفوف رجال الأسد لينضموا للجيش الحر ويكونوا بمثابة نواة لتسريب المعلومات ما يسهل عليهم مهمة القضاء على الإرهابيين كما يطلقون عليهم. غربت شمس هذا اليوم الحافل بأجواء الخذلان والانهزامات، وحل الليل معتقا بسديم عتمة. واقع كان لابد من فراقه، فما أصعب شعور هؤلاء الناس بالمنفى في أرض الوطن، ليعيشوا حياتهم بطعم الشتات وسط أكوام الخراب، لا يتحدثون إلا إذا لزم الأمر لكنهم في ذات الوقت يتقاسمون همومهم كل ليلة ولو بمجرد نظرة مواساة ومؤازرة يتبادلونها مع بعضهم البعض، يتشبثون بخيوط الضوء وهي تصارع احتضار النهار.. وفي نهاية المطاف ينتفضون ليلا كالريح خوفا من المجهول الذي قد يحمله لهم فجر يوم جديد. هي قصص أموات على قيد الحياة، واقعهم أكثر قساوة من سرده، وقد تعجز حروف كل لغات العالم عن وصفه كما هو. عدنا في طريقنا كما أتينا، ظللنا نسير ونسير ليلا في ذات الطرق الجبلية الوعرة ولا نكلم بعضنا البعض، لا صوت إلا لأقدامنا عندما ترتطم بحجر أو صخرة تكاد توقع أحدنا أرضا وسط الظلام الدامس، فالضوء كان ضمن الممنوعات المحرمة علينا في هذه الرحلة، ولو كان نور جهاز "موبايل" لأنه سيجعل منا هدفا. كلما تعبنا جلسنا لدقائق للارتياح قليلا ومن ثم المواصلة حتى عدنا بأمان وإلى هنا أكتفي بهذا القدر من نقل معاناة المدنيين السوريين العزل الذي هم ضحايا هذه الأزمة. وأخيرا أعتذر لما سببته لكم من ألم عن غير قصد، فالواقع كان أكثر قساوة مما يمكن أن تتخيلون لكن هذا ما تفرضه علي واجبات مهنة البحث عن المتاعب...! ودمتم. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته