كثيراً ما يذكر التعليم العلماني الغربي الحديث وإنتشاره كعنصر مهم في نمو وتبلور الحس الوطني في المجتمعات المستعمرة إلا أن الصلة بين التعليم الحديث ونمو المشاعر القومية ليست دائماً ظاهرة محددة المعالم كما نتصور أحياناً، والحقيقة ان النخبة السودانية كانت تتكون- في مطلع العشرينات من القرن الماضي مثلاً من طلاب وخريجي المؤسستين التعليميتين الوحيدتين آنذاك كلية غردون التذكارية ومدرسة الخرطوم الحربية، اللتين أسستهما الإدارة البريطانية عامي 1902-1905م، تتابعاً، ولذا فهو ضرب من المبالغة أن يعزى إلى هاتين المدرستين "تربية طلابهم على مستوى من التكنولوجيا والقيم الثقافية والسياسية والديمقراطية الليبرالية" كان مفهوم التعليم وسياساته أثناء الفترة الاستعمارية الباكرة وحتي نهاية الحرب العالمية الأولي، ضيقاً لا ولن يؤدي إلى خلق صفوة غربية التعليم والثقافة يمكن أن يعزى إليها ِإشعال شعلة الحركة الوطنية، وليست المسألة مسألة أعداد، فكثيراً ما سيطر الوطنيون على الأحداث رغم قلة عددهم، فهم قادرون على إيصال مفاهيمهم السياسية لمسرح الأحداث وللجمهور باستخدام لغة الجماهير بطريقة لا يدانيهم فيها أي حاكم أجنبي، كما يتسني لهم حشد التأييد الشعبي، وذلك بإثارة النعرات الدينية والقبلية والجهوية والثقافية وإبراز إستغلال المستعمر الأجنبي وظلمه وصلفه، وفضلاً عن ذلك فإن الوطنيين يجنون ثمار عالمين: عالم الأجداد بعاداته وبتراثه ومثله وتقاليده، وعالم الديمقراطية والبرلمانات بمناظراته وحواراته والنضال والحركة لقيادة المجتمع والدولة، وهكذا يستحوذون على ولاء الجماهير ويحصدون الأصوات في الانتخابات. إن التعميم بأن النظام التعليمي البريطاني خلق لغة "قومية" عامة وصفوة تطالب بالاستقلال" على أسس القيم السياسية الغربية الليبرالية والقيم والتعاليم الأخلاقية للمسيحية لا تنطبق على السودان وشمال افريقيا وغالب أهلها من العرب المستعربة والمسلمين، وقد نشأت في هذه الأقطار- باستثناء الجزائر- حركات وطنية مبكرة سابقة لمثيلاتها من حركات التحرير في أنحاء أخرى من إفريقيا، كما أنه لا القيم المسيحية ولا إدخال لغة أوروبية جديدة قد ساهم في نمو الحس الوطني في المغرب العربي كما كتب علال الفاسي عن تاريخ الحركات الاستقلالية في المغرب العربي "القاهرة 1948". الأهم في نهاية الأمر هو محتوى التعليم: وفي حالة السودان وأثناء العشرين سنة الأولى من الإدارة الاستعمارية كان مضمون التعليم خالياً من أي أفكار تدعو إلى الثورة أو التحرر. بل أن سياسات التعليم كانت ترمي للحيلولة دون ذلك بالتركيز على التعليم الفني والحرفي وحدهما. وكان كل من لورد كتشنر أول حاكم عام للسودان عند مطلع القرن وخلفه ونجت باشا عارضا أن يفرض على قوم شبه شرقيين ونصف متحضرين نظام معقد من التعليم لا يصلح إلا لأمة غربية في قمة الحضارة.. كان الهدف الأساسي من التعليم هو إعداد موظفين صغار لوظائف صغيرة. ومن ناحية أخرى فإن النظرة إلى التعليم في السودان في أيامه الأولي بأنه يعبر عن تأثير هيمنة الليبرالية الغربية تتجاهل التربية السياسية غير المباشرة التي تلقاها كثير من الشباب السودانيين أثناء اتصالهم بمصر وبالمصريين بمعظم طلاب وخريجي كلية غردون التذكارية كانت أعينهم وأفئدتهم تتجه صوب قادة الحركة الوطنية المصرية والصحافة المصرية مصدر إلهامهم وآرائهم التقدمية أكثر من اتجاههم صوب أساتذتهم البريطانيين في حجرات الدراسة وكتبهم التي أمامهم، فقد كان حزب الوفد المصري مثلاً يمثل عندهم كل ما هو تحرري وحديث، وكانوا يؤيدون برامجه المنشورة في الصحف ويهللون لمبادئه ويتطلعون إلى اليوم الذي يحذون فيه حذوه.. وكانت الصحافة المصرية تحمل أخباراً من جميع أنحاء العالم، خاصة أخبار بلاد المشرق العربي الإسلامي مثل آخر تطورات الموقف السياسي في مصر، اعتقال المهاتما غاندي أو إطلاق سراحه، ومصطفي كمال أتاتورك وما يفعله وما يتركه، ومقالات وطنية نارية، وهجوم على الجشع والاستغلال الغربي ومؤامرات الإمبريالية ومقالات عن الديمقراطية والاشتراكية، وعن عصبة الأمم، ومن خلال كل ذلك التركيز على موضوع واحد لا يتغير وهو صحوة الشرق والتطلعات القومية لمصر، وتركيا وسوريا وفلسطين والهند والصين، الخ.. ولكن وبالرغم من ذلك كله فقد كانت كلية غردون التذكارية مميزة وفاعلة من ناحيتين إذ أتاحت للطلاب السودانيين التواصل وتبادل الآراء ليس مع بعضهم البعض فقط، بل مع أساتذتهم البريطانيين أيضاً وإن كانت العلاقة بين هؤلاء الطلاب والأساتذة متوترة في بعض الأحيان، وكانت الكلية نفسها في البداية أقرب إلى كلية حربية منها إلى مؤسسة تعليمية مدنية ويصف الأستاذ ادوارد عطية الذي كان معلماً بها أجواء الكلية كالآتي: كانت مدرسة حكومية في بلد كانت الحكومة فيه إستعمارية وأجنبية، وكان المعلمون البريطانيون مدرسين وحكاماً حيث تطغي الصفة الثانية على الأولى وكان على الطلاب أن يظهروا لأساتذتهم خضوع الرعايا للحاكمين، وكان الأساتذة عند بعض الطلاب يمثلون جيش الاحتلال، وحتى عندما يكون الأستاذ عطوفاً ولين الجانب، يرى التلميذ فيه وزير المعارف، والسكرتير الإداري، والحاكم العام، وعلم بريطانيا، وقوة الحكومة البريطانية، كذلك كان يرى فيه مفتش المركز الذي كان يحكم أهل قريتهم. ونفس هذا المعلم ربما يصبح في يوم من الأيام مفتشاً للمركز، وحاكماً عليهم وعلى آبائهم ولكن كانت كلية غردون ذات أهمية من ناحية أخرى، إذ تعد طلابها للعمل في إدارة مدنية يسيرها ويسيطر عليها مشرفون بريطانيون ومصريون، وكانت فرص الترقي فيها لموظف سوداني صغير صعبة المنال. وقد أدى ذلك إلى تفاقم التذمر والشعور بالظلم عند صغار الموظفين السودانيين وهو الشعور الذي ظهرت بوادره منذ أن كانوا طلاباً، والذي سوف يتطور ويتجذر في المستقبل. ولعل أكبر مساهمة للكلية في شحذ الحس الوطني ونموه بين طلابها هو تمكينها لكثير من هؤلاء الشباب السودانيين من مختلف الخلفيات القبلية والاجتماعية أن يفكروا ويتصرفوا كمجموعة واحدة، كما كانت ملتقي وبوتقة حولت هذه الروابط التقليدية القبلية إلى ولاءات وطنية جديدة نتيجة للطموح المشترك والتجارب المشتركة، وهكذا جاء فيما بعد دور المدارس الثانوية العظميى في السودان، خور طقت ووادي سيدنا وحنتوب.. وكان انشاء نادي الخريجين في أم درمان عام 1918م، عن هذا الوعي الجديد بالذات والشعور الجماعي الذي بدأ في الظهور، كانت تلك الأندية أول محاولة للمتعلمين السودانيين ليتجمعوا طواعية في مجموعات اجتماعية يربط بين أفرادها شعور مشترك، وربما نظرة موحدة نحو المستقبل. وقد إهتم النادي في بداية الأمر بالنشاط الاجتماعي والثقافي، دون أن يخوض مباشرة في السياسة، مثل جمع التبرعات للاغراض الخيرية، وتنظيم المناظرات والمهرجانات الأدبية، والأعمال المسرحية الخ.. ولكن ظل الهدف هو استغلال ذلك النشاط للوصول إلى دائرة أوسع وجمهور أكبر، خاصة في المدن الكبرى، وكان النادي يهدف إلى تأكيد الرغبة في بلوغ القيادة السياسية تدريجياً. وظهرت بعد الحرب العالمية الأولي مباشرة، اتحادات وأنشطة ذات صبغة سياسية واضحة: أولها جمعية الاتحاد السوداني، انشأتها في عام 1919م، مجموعة من طلاب كلية غردون وخريجيها في أم درمان ثم جاءت جمعية اللواء الأبيض لاحقاً. كانت نشاطات جمعية الاتحاد في البداية أدبية واجتماعية، ومثل نادي الخريجين نادت بتوسيع قاعدة التعليم وساندت فكرة التعليم الأهلي، كما شجعت وساعدت سراً بعض الطلاب السودانيين لطلب العلم في مصر، وقد أثبتت هذه الثلة التي نجحت في التسلل الي القاهرة- فيما بعد- جدارتها ودورها كهمزة وصل بين جمعية الاتحاد والحركة الوطنية المصرية. إن تركيز جمعية الاتحاد على التعليم العام العالي كان أكثر من مجرد إدانة لنظام التعليم الاستعماري.. فقد كان وراء هذا الاهتمام ما يلقى الضوء على الاراء السياسية لأعضاء الجمعية، ساد شعور بأن الذين ينالون تعليماً جامعياً من السودانيين هم فقط الذين يستطيعون إدارة مفاوضات مع البريطانيين والمصريين حول مستقبل السودان، وهذا يستبطن في طياته بداهة رفضاً لاتجاه مصر وبريطانيا لحل النزاع حول السودان ثنائياً ودون مشاركة السودانيين.