.اختار الدكتور عوض الجاز وزير النفط مناسبة دعوة الشركات الراغبة في العمل في مربعات نفطية جديدة أن تكون أول إطلالة إعلامية له بعد عودته وزيرا لذات الوزارة التي غادرها قبل سنوات ثلاث. وهذا مؤشر حسن يؤمل أن يستمر ويتعمق إعمالا لمبدأ الشفافية وإشراكا للرأي العام لمعرفة ما يجري في هذا القطاع الحيوي ووضع لبنة للوصول إلى استراتيجية قومية تستند إلى توافق سياسي وشعبي بشأن الطاقة، خاصة وقضايا مثل البعد البيئي وحصول الولايات المنتجة على نصيب من العائدات أصبحت في صلب أي نقاش سياسي على المستويين القومي والولائي. المربعات الستة ستعرض على الشركات رسميا في منتصف الشهر المقبل وستمر بمرحلة من النقاش الفني والتفصيلي قبل الإعلان عن الشركات الفائزة في مايو المقبل. أربع من هذه المربعات أصبحت خالية هذا العام وهي مربعات (8) الممتد بين ولايتي سنار والنيل الأزرق، (10) في ولايتي كسلا والقضارف، (14) في الأقليم الشمالي و (15) في البحر الأحمر ويمتد ما بين المياه المغمورة واليابسة، بينما الاثنان الآخران وهما (12- ب) في إقليم دارفور و (18) في الإقليم الشمالي فيعرضان لأول مرة. خلو المربعات يأتي إما نتيجة لقناعة الشركات أن فرصها ضئيلة في تحقيق اكتشافات نفطية أو إعمالا لمبدأ التخلي بأمر من الحكومة وتنفيذا للاتفاقيات الموقعة التي تفرض على الشركات التخلي عن نسبة من مساحات الامتياز المعطاة لها حتى يمكن طرحها على شركات أخرى. وعليه فلا يعني تخلي الشركات تلقائيا أن المربع المذكور تنعدم فيه إمكانيات وجود احتياطيات تجارية. ويظهر هذا في أن شركة شيفرون تخلت عن مساحات في ولاية كردفان أعيدت تسميتها مربع (6) وحصلت عليه شركة النفط الوطنية الصينية وبدأت تنتج منه ما يغذي مصفاة الخرطوم بنحو 40 في المائة من احتياجاتها، بل انتجت قبل عام 20 ألف برميل يوميا من النوع الخفيف تذهب إلى التصدير. وإعمالا لمبدأ التخلي تركت الشركة الصينية جزءا من مساحة امتيازها في مربع (6) صممت مربعا جديدا أصبح يطلق عليه مربع (17) وتعمل فيه شركة (ستار أويل)، وتمت فيه اكتشافات مشجعة للغاية. والمربعان الذين تخلت عنهما شيفرون ابتداءا يمثلان حجر الزاوية في استراتيجية زيادة الإنتاج النفطي في السودان في الوقت الراهن على الأقل. على أن هناك ثلاث نقاط رئيسية تستصحب طرح المربعات الجديدة وعملية الترويج الجارية. أولاها أن النقاش مع الشركات الراغبة وفق اتفاقية قسمة الإنتاج السائدة. وعندما سألت الدكتور عوض الجاز إذا كانت هناك مراجعة لتلك الاتفاقية أجاب بما يعني ترك الباب مواربا أمام أي تعديلات يمكن أن تنبثق من النقاش بين الشركات والمسؤولين في الوزارة بما يحقق مصلحة الطرفين. لكن يبدو لي من المهم أن تبدأ الوزارة ومن الآن إعادة النظر في الاتفاقية القائمة انطلاقا من حقيقة أن عمرها 15 عاما جرت مياه كثيرة تحت الجسر، ثم إن المربعات الجديدة في مناطق نائية تفتقر إلى أي بنية تحتية وبعضها في مناطق مغمورة بالمياه كما في مربع (15) وتحتاج إلى حوافز إضافية للعمل هناك. ثم إن عملية الترويج هذه تختلف عن رصيفتها التي في منتصف العقد الماضي ونتج عنها تكوين كونسورتيوم شركة النيل الكبرى، بسبب أنه كان واضحا الاستناد إلى المعلومات الفنية المكثفة التي جمعتها شيفرون لتلك المربعات بل بدأ الإنتاج في بعض مناطق الامتياز، الأمر الذي شكل إغراءً. وهناك أيضا العامل السياسي الذي جعل الشركات الأمريكية والأوروبية تغيب بصورة شبه كلية عن الساحة النفطية السودانية خاصة بعد انسحاب شركتي لندين السويدية و أو.أم.في النمساوية. الملاحظة الثانية تتعلق بعنصر الغاز الذي برز بصورة واضحة في بعض المربعات المطروحة خاصة مربعا (8) و (15)، ويشكل مرحلة جديدة لم تعهدها الصناعة النفطية السودانية من قبل، فقد تمت اكتشافات لما يطلق عليه الغاز المصاحب كما في مربع (6) في جنوب كردفان وهناك جهود لاستغلاله واستخدامه في إنتاج الكهرباء كما اكتشف نوع آخر من الغاز غير المصاحب، وكلها تحتاج إلى استثمارات مالية وفنية ضخمة حتى يمكن استغلالها بصورة طيبة. الغاز المكتشف حتى الآن وتوزيعه قد لا يشكل إغراءً للشركات الأجنبية كي تنشط في هذا الميدان، لكن الأمر مختلف بالنسبة للسودان. وهذا ما يعيد إلى دائرة النقاش فكرة إعادة النظر في اتفاقية قسمة الإنتاج التي لم تول الغاز أهمية خاصة والنظر بجدية في نوع الحوافز الضريبية المقدمة للشركات مثلا وكذلك في كيفية إسهام الحكومة بصورة واضحة ومؤثرة باعتبار ميدان الغاز مجال استراتيجي يمكن أن يسهم في توفير الطاقة بديلا عن النفط الخام لتشغيل المحطات الحرارية التي تولد الكهرباء خاصة والاعتماد على التوليد الحراري في نمو متصل. النقطة الثالثة تتعلق بالقوى البشرية التي نمت وتطورت كما وكيفا خلال السنوات السابقة من عمر الصناعة النفطية السودانية وتجاوز عددها أكثر من أربعة آلاف شخص من مختلف التخصصات بخبرات عملية تتراوح بين أربع إلى اثني عشر عاما بالنسبة لأكثر من 60 في المائة من الإجمالي، وهو ما يمثل ثروة قومية تحتاج إلى اهتمام خاص وتحديدا في هذه الفترة بعد انفصال الجنوب وعدم ملاءمة المناخ السياسي السائد حاليا للاستفادة من خبرات الشماليين هذه في الجنوب إلى جانب عدم وجود اتفاق على تحويل تعاقداتهم إلى المستوى الدولي. الحل الجذري يتمثل طبعا في الاستفادة من هذه الطاقات والخبرات سواء داخل السودان أو خارجه. عملية الترويج وتنشيط عمليات الاستكشاف التي بدأت هي الخيار الأفضل لكنها تحتاج إلى وقت كي تتمكن من استيعاب كل هذه الأعداد، الأمر الذي يتطلب معالجة وفق رؤية أشمل من قبل الوزارة، وذلك قبل أن تتسرب هذه الخبرات انطلاقا من ظروفها الخاصة. فماليزيا عبر شركة بتروناس أصبحت لاعبا على المستوى الدولي رغم ضآلة إنتاجها النفطي، وذلك بسبب استثمارها في ميدان القوى البشرية وتوفير الخبرة النفطية المتخصصة والانتقال إلى عالم الإمكانيات المعرفية بدلا من الموارد الطبيعية، وهو ما يحتاج السودان إلى الاهتمام به في إطار استراتيجية أوسع.