تلاشي الخط الفاصل بين العام والخاص..!! إستغلال النفوذ الوظيفي، عبارة ظلت تتردد بكثرة في الآونة الأخيرة، ربما لتفرُّد المجتمع السوداني الذي يتفوَّق على مجتمعات (العالمين) قاطبة بإنفتاحه على بعضه البعض، ولذا تجد الأخبار بل الأسرار السياسية والاقتصادية والرياضية والفنية والاجتماعية، كلها تجدها على (قارعة) الملمات أفراحاً وأتراحاً، بالتالي فكثير من أحاديث المجالس تصبح بعد أيام من تداولها أخباراً غير قابلة للنفي، والأمثلة الدَّالة على ذلك كثيرة جداً. في السطور القادمات نورد فقط مُجرَّد نماذج لقصص مسؤولين إستغلوا نفوذهم الوظيفي فحققوا ثراءً غير مشروع، صحيح أنهم تعرَّضوا للمحاسبة والفصل من الوظيفة لكن هل صاروا عظة للآخرين أما أنَّ (المسلسل) ما زال يواصل حلقاته؟ وأين تكمن العلة هل في القانون الذي يحتكم له الناس أم في آلية التطبيق؟ أم يا ترى في (مسألة) الكشف عن (الفعل) نفسه؟؟!!.. في السطور القادمة نحاول الإجابة عن هذه الإستفهامات. يطرح القضية: ياسر الكُردي هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته بين الامارة والتجارة..!! في ثنايا بحثي عن كل ما هو متعلِّق بالتخليط بين العام والخاص، لفتت إنتباهي عبارة غاية في تصحيح المسار، ودرس بليغ في الحسم والحزم لكل من تسوِّل له نفسه نهج ذلكم الطريق المؤدِّي الى التهلكة، إذ يقول (الدرس) انه في عهد الملك فيصل (رحمه اللّه) تقدَّم أمير منطقة الخُبر بالمملكة العربية السعودية عبدالعزيز آل سعود بطلب وكالة سيارات. فكتب جلالة الملك فيصل على المعاملة: (يُخيَّر بين التجارة والإمارة ولا يحق له الجمع بين الاثنين). أما آخر الأخبار المتعلقة ب (إستغلال النفوذ الوظيفي) في السودان، فهو ما نشرته أغلب صحف الخرطوم قبل أيام وفيه أكَّدت توجيه نيابة الأموال العامة؛ وكيل النيابة الأعلى باستعجال ديوان المراجع العام القومي لمد النيابة بالتقارير والحالات الخاصة بقيام مسئولين بالدولة باستغلال نفوذهم والتعامل مع شركات يمتلكونها. وقال رئيس نيابة الاموال العامة مولانا هشام محمد عثمان ل(السوداني) إنهم وجهوا باستعجال المراجع العام لمدهم بأسماء الشركات والمتهمين الواردة بتقرير المراجع العام. من هنا يتضح جلياً أن القضية دخلت في (اللحم الحي) وبالتالي اصبح السكوت عليها من المستحيلات سيما بعد أن أورد تقرير المراجع العام الاخير أن مسئولين كبار يشغلون مواقع حكومية وفي ذات اللحظة يمتلكون شركات خاصة ويمارسون عمليات البيع والشراء من أنفسهم. لأجل ذلك تتالت القرارات صدوراً من أعلى المستويات (رئاسة الجمهورية) وما دونها بغرض (بتر) الفساد والقضاء عليه نهائياً من أجهزة الدولة التي عبر (نوافذها) يطل (إستغلال النفوذ الوظيفي) الذي ظلت الأجهزة الرقابية الرسمية وكذلك الصحف وغيرها من وسائل الإعلام تلاحقه وتهتم به سواء كان ذلك بالمستندات أو بالشبهات اذا لم تتوفر المعلومات الدقيقة. ////////////////////////////////////// الأمين العام..!!!!!! من القصص التي سارت بها الركبان في بلادنا مؤخراً تلكم التي قام فيها أمين عام لصندوق قومي شهير بإستغلال سافر لوظيفته من خلال بحثه عن منزل لكيما يستأجره لنفسه بوصفه (الأمين العام!!) وذلك على حساب حكومة السودان (المسكينة!!).. وبالفعل وجد منزلاً بضاحية الجريف غرب بسعر (2500) جنيه في الشهر.. غير أنَّ صاحب المنزل عرض عليهم إمكانية البيع إن كانوا يرغبون وبالفعل وافق (الأمين العام!!) على شراء المنزل وهذا ما حدث بالضبط ومن ثم قام عبر السمسار الذي كان يبحث معه عن منزل الايجار بتوقيع عقد اجار بنظام مانح الاجارة بحيث يقوم السمسار بدور الوكيل لصاحب المنزل حتى لا يظهر اسم (الامين) العام على عقد الايجار وهنا فقط يأتي الذكاء والتحايل على القانون حيث تمت بالفعل إجارة المنزل بضعف القيمة الحقيقية أي بمبلغ (5) الاف جنيه شهرياً وتسلم صاحب المنزل وهو الامين العام مقدم (6) شهور واستمر اجار المنزل الى ان تم اعفاء الرَّجُل (الأمين) العام من منصبه بمخالفات فساد متعددة. مزيد من النماذج..!! القصص عن استغلال النفوذ جعل مدير ديوان شؤون الخدمة العامة الاستاذ الطاهر محمد سليمان يبدأ حديثه معي بسرد واقعة حقيقية شهدتها أروقة جهة حكومية حيث إختلس إثنان من الموظفين بتلكم الجهة (44) مليون جنيه وهو مبلغ كبير جداً بمقاييس تاريخ وقوع الحادثة وبعد مواجهتهما ببينات دامغة إعترفا بفعلتهما ووافقا على إرجاع المبلغ مناصفة بينهما بحيث يدفع كل واحد منهما مبلغ (22) مليون جنيه أو ما يُعرف ب(التَّحلُّل من الثراء الحرام أو المشبوه) لكن الغرابة تمثلت في طلبيهما بالعودة الى الوظيفة بإعتبار أنهما تحللا من الثراء الحرام وهذا من الاخطاء الجسيمة التي يرتكبها بعض مستغلي النفوذ الوظيفي إذ أن مجرد وقوع الفرد في هذه المخالفة يجعله ليس أهلا لهذه الوظيفة البتة حتى ولو إعترف بفعلته وردَّ ما عليه بل وتاب. ورغم أن المراقبين يجمعون على أن القانون الموضوع لمحاربة هذه الظاهرة جيد جداً لكن تبقى العلة كلها في آلية التنفيذ والتي لم تحقق المطلوب بدليل أن ذاكرة الناس تحفظ قصصا كثيرة ومنها على سبيل المثال لا الحصر قضية المدير العام (الأسبق) للخطوط البحرية السودانية والذي وجَّهت له الإدارة القانونية بشركة الخطوط البحرية السودانية، إنذاراً قانونياً لإعادة مبلغ (470) مليون جنيه مستغلاً وظيفته وذلك استنادا الى تقرير المراجع العام بالتالي وقع ذلكم المدير تحت طائلة المواد (177) و(178) من القانون الجنائى والمادة (6) من قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه. وكذلك قضية شركة الاقطان السودانية التي تقول ان وزارة الزراعة والغابات كانت في حاجة لمدخلات وآليات زراعية فوجدت قرضاً بحوالي (30) مليون دولار من بنك دبي الإسلامي بضمانات قدمها بنك السودان بناء على طلب وزير الزارعة على أن تكون مدة سداد الغرض ثلاث سنوات مع فترة سماح سنة واحدة. أما الشركة المنوط بها توريد هذه المدخلات الزراعية فهي شركة الأقطان السودانية ومديرها العام. حيث وقعت شركة الأقطان (عقد وكالة) لشركة أخرى اسمها (شركة تاجا الهندسية) ومقرها في دبي، إذ أن كل ما فعلته شركة الاقطان التي تحتكر لها الحكومة تسويق القطن وكذلك ما يشبه احتكار توريد مدخلات الزراعة من مبيدات وسماد وآليات، هو انها حوَّلت (من الباطن) كل هذه الأموال لصالح فرد، وبالطبع فإن بقية القصة معروفة حيث ألقت السلطات الامنية وبتوجيه من رئيس الجمهورية ألقت القبض على مدير عام شركة الاقطان ورفيقه وذلك على خلفية الفساد الذي ولغت فيه شركة الاقطان. الضابط الأخلاقي للتعليق على قضية استغلال النفوذ الوظيفي إستنطقنا البروفيسور إبراهيم أحمد إبراهيم الإمام، الخبير الاداري المعروف والإستشاري بوزارتي تنمية الموارد البشرية والعمل والرعاية والضمان الاجتماعي والذي إبتدر حديثه قائلاً: أنا حقيقة أعرف جيداً حادثة واحدة تتعلق بهذا الموضوع كانت لمدير جهة حكومية إستغل وظيفته وقام بإستئجار منزله لتلكم الجهة التي هو مديرها لكن إحقاقاً للحق أقول إن أمره قد كُشف وعوقب على فعله. وإن كنتُ لم أقف على حالات مُشابهة لكن ما يجب تأكيده هنا أن المسألة متعلقة بأخلاق الفرد وسلوكه فبغض النظر عن الضوابط القانونية يُفترض أن يفصل الموظف تماما بين مهامه الوظيفية ومصالحه الشخصية وذلك بأن يبتعد كل البُعد عن الخلط بين العام والخاص حتى لا تكون له أدنى مصلحة خاصة به فيما يقوم به من عمل عام. وبالتالي كما ذكرتُ هي مسألة أخلاقية فحتى إن لم يكن هناك قانون يضبطها إلا انها مُستهجنة ومُسيئة لمن يقوم بها في المقام الاول ومن هنا أقول إن ضابطها اخلاقي أكثر من قانوني. فمثلا قد تخصِّص الحكومة ميزانية لجهة ما فيقوم مدير هذه الجهة بتوظيفها على أُسس صحيحة مئة بالمئة لكن في مشروع ليس مُهماً بل هناك ما هو أهم منه بكثير فقط هُم يفعلون ذلك لأنه يحقق مصالحهم الشخصية ويجعلهم (يتكسَّبون) بمال لا يستحقونه وهذا ما يُعرف ب(حرف الموارد) وفي تقديري هذا يمثل الخطر الأكبر على موارد البلاد لأنَّ الاذكياء وما أكثرهم لا يسرقون على عينك يا تاجر لكنهم ينتهجون مثل هذه الأفاعيل وفي اعتقادي أن سبب ذلك هو غياب الشفافية عند التخطيط لقيام المشروعات وتحديد موازناتها. لتكون النتيجة الاخيرة قيام الكثيرين ب(تحريف) الميزانيات والموارد حسب مصالحهم وليس مصلحة الجهات الحكومية التي يعملون بها علماً بأنهم يفعلون ذلك وفقاً لفواتير سليمة وهنا مكمن الخطورة. المشكلة في التطبيق..!! يقول المستشار العام لإدارة التفتيش بوزارة العدل مولانا محمد سعد ونَّان: إنَّ إستغلال النفوذ الوظيفي وخلط العام بالخاص يعود أساساً لضعف الرقابة وعدم تفعيل قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه، وتتمثل خطورة هذا الفعل في كونه يمس المصداقية والشفافية للدولة كما أنه يطعن بصورة مباشرة في نظافة يد الموظف الذي يُفترض ألا تمتد يده للحصول على المال العام. ويمضي مولانا ونَّان بقوله: إنَّ قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه ينص في المادة (6) على انه يُقصد بالثراء الحرام كل مال يتم الحصول عليه بعدة طرق، وما يهُمنا منها هنا: (ب) إستغلال سلطة الوظيفة العامة، أو نفوذها بوجه ينحرف بها من الاغراض المشروعة والمصالح العامة. أما العقوبة التي نصَّ عليها القانون لكل من يرتكب هذه الجريمة فهي السجن لمدة لا تجاوز عشر سنوات أو غرامة لا تجاوز ضعف مبلغ المال موضوع الثراء الحرام أو العقوبتين معاً. وتنص المادة التالية على أنه يُعزل كل موظف عام تتم إدانته بالثراء الحرام أو يثبت ضده الثراء المشبوه أو يفصل من منصبه بحسب الحال. ويستدرك مولانا محمد سعد بأن إستغلال سلطة الوظيفة العامة لم تصل مرحلة الظاهرة المزعجة خصوصاً إذا قارنا حالنا بدول ثورات الربيع العربي لكن بالطبع لا يعني هذا أن نستكين بل لا بُد من تفعيل الآلية الموجودة وهي ليست مسئولية الدولة وحدها بل ينبغي ان يساعدها المجتمع بمختلف مكوناته فالصحافة لها دور والمواطن كذلك له دور وبتكاتف كل الادوار يمكن محاصرة استغلال النفوذ الوظيفي بل القضاء عليه تماماً. نصوص قانونية استغلال النفوذ الوظيفي مرتبط تماما بالفرد ومكوناته، هكذا يقول مدير ديوان شؤون الخدمة العامة الطاهر محمد سليمان، ويمضي بتوضيحه ان المرجعيات التي نقيس عليها السلوك تتمثل في الجانب القانوني واللائحي والاخلاقي.. عليه هناك مخالفات يمكن ضبطها واثباتها بالقانون لكن في نفس الوقت هناك مخالفات يصعب اثباتها وهنا يجئ دور الضمير والوازع الاخلاقي لأن المخالفات دائما ما ترتكب في الظلام خوفا من الوقوع في طائلة القانون وقبل ذلك سمعة الموظف نفسه. ونجد ان قانون الخدمة المدنية القومية لسنة 2007م تناول مسألة استغلال النفوذ الوظيفي مترجما ذلك في شكل لائحة حددت واجبات العامل وما يحظر عليه ومن ضمن المحظورات ما ورد في الفقرة (ب) من المادة (40) والتي تنص على عدم استغلال النفوذ الوظيفي. بالتالي كل من يقع في هذه المحظورات يكون عرضة للمساءلة وفقا لقانون محاسبة العاملين اذا كانت المخالفة ادارية. اما اذا كانت المخالفة جنائية فتذهب للنيابة او القضاء. ويخلص مدير ديوان شؤون الخدمة الى ان استغلال النفوذ الوظيفي موجود بدليل تقارير المراجع العام التي ظلت تورد على مسامعنا سنوياً أرقاما ضخمة تؤكد أن الأمر يحتاج إلى وقفة جادة.