هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته كثر الكلام حول حوادث اغتصاب الأطفال التي ازدادت بصورة كبيرة في الآونة الأخيرة, وهى حوادث خطيرة ومُفزعة ومُحزنة لأنها تتعلق بأكثر الفئات المُجتمعيَّة ضعفاً: الأطفال. وهي فئة لا تملك إمكانية الدفاع عن نفسها في مواجهة المُعتدين, بل يتحملُ مسئولية الدفاع عنها المُجتمع بأكمله وليس الأسرة فقط. وقد لا حظتُ أنَّ مُعظم ما كتب حول هذه الظاهرة تراوح بين الإثارة, والتناول العاطفي, والحديث اللاعقلاني المُفتقد للنظرة العلمية العميقة. ويُمكننا أن نعزي ذلك – في وجهة نظري - إلى خللٍ عام في منهج تفكيرنا أسماهُ المرحوم فرج فودة بمنهج "هات من الآخِر", بمعنى أنَّ هذا المنهج لا يكترثُ "لأسباب" الظاهرة, وإنما يهتمُّ فقط "بنتائجها". وهو كذلك منهجٌ كسولٌ, قصير النفس, لا يحتملُ التأمُّل الطويل والتحليل والتفكير العميق في أسباب الظواهر الاجتماعية, ويعتقدُ أصحابهُ أنَّ لديهم حلاً "سحرياً" سيُحوِّلُ المُجتمع إلى "مدينةٍ فاضلةٍ" بين عشيِّةٍ وضُحاها. هذا الحل لخصَّهُ حزب التحرير الإسلامي – ببساطة شديدة - في ضرورة العودة إلى "دولة الخلافة الرَّاشدة". أصدر حزب التحرير الإسلامي بياناً تحت عنوان: "جرائم اغتصاب الأطفال من ثمرات الحضارة الغربية الآسنة" تناول فيه ظاهرة ازدياد حالات اغتصاب الأطفال, وقال الحزب في بيانه إنَّ ظاهرة الاغتصاب تعزى (لسببٍ واحدٍ وهو عيش المسلمين في مجتمعاتٍ غير إسلامية). عنوان بيان حزب التحرير يُعبِّر عن حالة نموذجية من حالات تجلي منهج التفكير العاطفي اللاعقلاني الذي يُرجع كل مشاكل مُجتمعنا لشيطانٍ مُتخيَّلٍ اسمهُ "الحضارة الغربية". وهو عنوانٌ لا يصمدُ أمام حقائق الواقع حيث ظل مُجتمعنا السوداني في حالة تفاعل مُستمر مع الحضارة الغربية منذ حلول البريطانيين في ديارنا قبل أكثر من قرن من الزمان وحتى يومنا هذا, ومع ذلك لم تنتشر مثل هذه الجرائم إلا في السنوات الأخيرة!!, فكيف إذاً تكون هذه الظاهرة ثمرة من ثمرات الحضارة الغربية الآسنة؟. إنَّ الوصف المجَّاني للحضارة الغربية ب"الآسنة" (وهو الماء الذي لا يشربهُ أَحدٌ من نَتْنِه) فيه من التناقض والسذاجة قدر ما فيه من الخواء و"الاستعلاء" الأجوف, فهذه الحضارة الموصوفة بالآسنة تقفُ على رأس حضارات الدنيا في زماننا الرَّاهن, في العُلوم والتقانة, في السياسة والاقتصاد , ونحنُ – شئنا أم أبينا - نعيشُ "عالة" عليها في كل شىء, نستورد منها جميع احتياجاتنا, ونستهلك كل ما تنتجهُ, من الإبرة إلى الصاروخ, وحتى جهاز الكمبيوتر الذي طبع به بيان حزب التحرير. إنَّ عباقرة حزب التحرير الإسلامي لا يترددون في وصف الحضارة التي اخترقت الفضاء حتى وصلت كوكب "المريخ", واخترعت مُحرِّك البحث المُدهش "قوقل", واكتشفت "الخرائط الجينية" بالحضارة الآسنة, فتأمل!! وإذا كان المقصود "بالآسنة" هو غياب البُعد الرُّوحي في الحضارة الغربيَّة فهذا أيضاً فيه الكثير من الخلط والشطط, فالحضارة الغربية عمودها الفقري هو الديانة المسيحية, وأهل تلك الحضارة ليسوا حيواناتٍ ماديةٍ إجمالاً كما يتم تصويرهم عندنا, وكاذبٌ – في مُجتمعاتنا - من يدَّعي تفوقاً أخلاقياً وقيمياً عليهم سواء كان على مستوى الفرد أو الجماعة (والأخلاق بالطبع أمرٌ نسبيٌ يُقاسُ بمعايير الثقافة المُعينة), أمَّا القيم الإنسانية العالميَّة (يونيفيرسال) مثل الحُريَّة والعدل والصِّدق والأمانة واحترام قيمة الوقت, وقيمة العمل, وحقوق الإنسان وغيرها فهي موجودة في تلك الحضارة وبما لا يُقارنُ بأيّ مكانٍ آخر في عالم اليوم. وحتى لا يخرج علينا فلحوسٌ? ?(الفلحوس في العامية المصرية هو الشخص المُتطفل الذي يُقحمُ نفسهُ فيما لا يفهمه) يتهِّمنا بالانبهار بالغرب, وبموالاة أهله, فإنه يتوجب علينا التأكيد على اعتزازنا بديننا الحنيف, وبرسالته الخاتمة, وأنَّ حديثنا عن الحضارة الغربية لا يتعدى حدود الاعتراف بحقائق "الواقع" الماثلة التي لا سبيل لإنكارها. أمَّا إرجاع ظاهرة اغتصاب الأطفال لسببٍ واحد مُتمثل في: "عيش المسلمين في مُجتمعات غير إسلاميَّة", فهو بالإضافة لعدم صَّحتهِ (لأنَّ المُجتمع السوداني مُجتمعٌ مسلمٌ رضي حزب التحرير أم أبى), فإنه يُخالف المناهج العلمية في التفكير والبحث والنظر في الظواهر الاجتماعيَّة, والتي هى بطبيعتها تختلفُ عن الظواهر "المادية", وبالتالي لا يمكن إرجاعها لسببٍ واحدٍ فقط. الظواهر الاجتماعية تتداخل في تشكيلها العديد من الأسباب والعوامل الثقافية والفكرية والاقتصادية والسياسية وغيرها. بعد أن عزى البيان ازدياد ظاهرة اغتصاب الاطفال ل"عيش المسلمين في مُجتمعات غير إسلاميَّة" شرع في الحديث عن مظاهر ذلك العيش وقال: (شكل الحياة العامة التي تعجّ بالنساء الكاسيات العاريات، بحُجة الحُرَّيات والحداثة، واجتماع النساء والرِّجال لغير حاجة يقرها الشرع، ووسائل الإعلام التي تخاطب الغرائز وتثيرها، وعجز نظام التعليم عن إيجاد الشخصية الإسلامية، والصُحف المُسمَّاة اجتماعية التي تشيع الفاحشة وتوجد رأياً عاماً للجريمة والانحراف. وثالثة الأثافي خدمة الإنترنت؛ التي عبر مواقعها الإباحية تجعل من البشر مجموعة من المجانين لا يفيقون إلا على وقع جريمة تقشعر لها الأبدان، وفي غياب واضح لرعاية الشؤون ومعاقبة المجرمين بالعقوبات الرادعة). انتهى. إنَّ شكل الحياة العامة في المُجتمع السُّوداني كما يُصوِّرهُ كتبة البيان لا يُمكن أن يكون سبباً في ازدياد ظاهرة الاغتصاب, بل على العكس تماماً فمجتمعٌ منفتحٌ بهذه الطريقة وهذا الوصف الوارد في البيان يجبُ ألا تنتشر فيه هذه الظاهرة لأنها في جانب كبيرٍ منها ناتجة عن الحرمان والكبت الجنسي. ويرى كاتب هذه السُّطور أنَّ من بين الأسباب العديدة لتنامي هذه الظاهرة في المُجتمع السُّوداني يبرز سببان رئيسيان, أحدهما اقتصادي والثاني سلوكي نفسي. يجبُ الاعتراف بأنَّ هناك مُشكلة جنسية حادَّة يُعاني منها الشباب بسبب الفقر والبطالة والأوضاع الاقتصادية التي يصعبُ – بل يكادُ - يستحيلُ معها الزواج وتكوين الأسرة. ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ مُعظم الذين يرتكبون هذه الجريمة البشعة هم من فئة المرضى النفسيين, ولذا فإنَّ "العقوبات الرادعة", أو إعدام المغتصبين علناً وفي ميدان عام, لن يحل المشكلة وحدهُ بل يجب أن يضطلع أهل علم النفس والأطباء النفسيين بدورٍ مُهم في علاج هذه الظاهرة. يجبُ كذلك التأكيد على أنَّ المُجتمع السُّوداني ليس استثناءً من مُجتمعات الدُّنيا التي تشهدُ في الوقت الحالي زيادة في ظاهرة اغتصاب الأطفال (يُمكننا الحديث عن موجة عالمية), وإنْ اختلفت الأسباب بين مُجتمع وآخر إلا أنَّ هناك أسباباً مُشتركة يقفُ على رأسها موضوع الانحرافات السُّلوكية والاضطرابات النفسية. ثمَّ يعود بيان حزب التحرير للغة الهتافيَّة الخاوية من المضمون ويقول: (فكيف يكون الحل الذي نبحث عنه عند منظمة الأممالمتحدة والقوانين الدولية العلمانية التي تروج للأفكار والمفاهيم الهدامة - الثقافة الغربية المنحطة – نفسها التي تسببت في انحلال وتفسُّخ المجتمعات في بلاد المسلمين). انتهى. هذا الحديث السَّطحي والساذج الذي يُرجعُ أسباب الظاهرة للقوانين "العلمانية", والثقافة الغربيَّة "المُنحطة", لا يجد ما يدعمهُ في حقائق الواقع, فالقوانين (دينية أو مدنية) لا تتسبَّبُ في ازدياد مثل هذه الظاهرة, كما أنها لا تستطيع وحدها القضاء عليها, والثقافة الغربية كما ذكرنا آنفاً ليست سبباً في تنامي هذه الظاهرة المُستجِّدة على المُجتمع السَّوداني الذي ظلَّ يتأثر بالثقافة الغربية منذ احتكاكهِ بها لأول مرَّة قبل أكثر من مائة سنة. وإذا كانت القوانين الدينية غير كافية للقضاء على هذه الظاهرة, فإنَّ التديُّن نفسه – وأعني تديُّن الأشخاص – لا يكفي لردعهم إذا كانت الأسباب الحقيقية (اقتصادية, نفسية, اجتماعية, إلخ) وراء الظاهرة قائمة. وليس أدلَّ على ذلك من أنَّ مُرتكبي هذه الجرائم قد يكونون من المُتدينين عُموماً, بل من رجال الدين, وفي سطور الخبر التالي الذي أوردتهُ صحيفة "آخر لحظة" في الرابع من أكتوبر 2012 ما يؤكد قولنا هذا: (ألقت الشرطة القبض على إمام مسجد وشيخ خلوة بتهمة التحرش واغتصاب طفل لم يتجاوز ال(10) أعوام بشرق النيل يدرس في الخلوة وذلك بعد استدراجه للمجني عليه داخل غرفة مُلحقة بالمسجد). انتهى. لكل الأسباب التي ذكرناها في ثنايا هذا المقال لا بُدَّ من العمل على علاج "جذور" الظاهرة في ذات الوقت الذي يتمُّ فيه التركيز على الجريمة والعقاب. وفي هذا الخصوص علينا أن نستبدل المنهج الذي يُركِّز على النتائج (منهج هات من الآخر), بالمنهج الفعَّال الثاني الذي يبحث في الأسباب (منهج هات من الأول).