أمر محزن ومؤسف أن ترحل عن الدنيا إلى ذمة الله قبل أن ترى مقامك في وجدان الناس حباً ووداً وتقديراً، حيث يأتي يوم شكرك في يوم رحيلك عن الدنيا. السودانيون صارمو القسمات بطبعهم ضنينون بالتعبير عن مشاعرهم الإيجابية تجاه بعضهم البعض، لا تجد الواحد منهم يعبر عن حبه وتقديره لأحد إلا في وضع اضطراري يفتقد فيه مقدرة السيطرة على مشاعره. تعرفت عن قرب بالراحل الأستاذ فتحي شيلا الذي رحل أمس الأول عن هذه الدنيا الفانية، رحل بثبات وجسارة نادرة في مواجهة مرض عنيد وخبيث، مضى شيلا إلى العالم الآخر بثبات، واثق الخطى، كأنه في الطريق لتأدية مهمة عملية أو واجب اجتماعي ملح. أصدقكم القول، تمنيت سراً أن أكون بشجاعة وصمود هذا الرجل إذا ابتلاني الله بمثل ما ابتلاه! تعرفت عليه عبر أستاذي إدريس حسن في بداية الألفية الثالثة، حينما كلفني بإجراء حوار معه بعد عودته من العمل المعارض. وفي منزله بالخرطوم3 وجدت نفسي مع الزيارات واللقاءات، أتعامل مع سياسي من طراز فريد، رجل لا يهاب التساؤلات المفاجئة وقادر ببراعة على تجاوز المطبات الحرجة، دون أن تسقط من وجهه تلك الابتسامة الكاكوية المحببة. سياسي بأخلاق معلم وكرم شيخ عرب وثقافة وجسارة رجال النقابات، في أزمنة كانت النقابات فيها مدارس للعلم والتثقيف والتأهيل ومحبة الشعب، تعلمهم الانحياز للفقراء والمساكين ومكسوري الجناح وجرحى الكبرياء،انحياز بحب وود لا في انتظار مصلحة انتخابية قادمة. في زمن البوابات الإلكترونية وكاميرات المراقبة المنزلية والانترفون، لن تجد نفسك مضطراً لطرق باب منزل الأستاذ فتحي شيلا لأنك أصلاً لن تجد الباب مغلقاً، فالرجل بجلبابه الأبيض الحليب وعمامته التي أرهقها بتأدية الواجبات صباح مساء، تجده يجلس في حديقته الصغيرة إما في استقبال ضيوف أو في وداعهم، كل ما يكلفك الأمرتصفيق مقتضب يلفت الانتباه. ملاحظة ذكية تلك التي أوردها الأستاذ حاتم السر في العزاء أمس حين لفت نظر المعزيين، على ردود الأافعال التي ترتبت على انتقال فتحي شيلا من الحزب الاتحادي الديمقراطي إلى المؤتمر الوطني، قال السر إن مثل هذه الانتقالات تصحبها انتقادات وإساءات متبادلة بين السياسي وحزبه القديم إلا في حالة فتحي شيلا حيث ظلت حبال الود موصولة وماء الحب مصان ولم يشرخ زجاج الاحترام! تفسيري لملاحظة حاتم السر،أن الأستاذ/فتحي شيلا، ظل طوال عمله السياسي رجل نظيف اللسان عفيف اليد، وبذلك فرض على خصومه ومخالفيه لغة التخاطب معه بأدب وود في أشد المواقف توتراً! كنت معه بالمنزل بعد عودته الأخيرة من رحلة العلاج بتايلاند، كنت أظنه غير متابع لتطورات الأحداث السياسية والصحفية، فما فيه يكفيه ويفيض، ولكنني تفاجأت بمتابعته المبصرة لأدق التفاصيل السياسية وانتقالات الكتاب والصحفيين. لم أقل لكم،أن علاقتي بالراحل الأستاذ فتحي شيلا توطدت بعد علاقتي مع صديقي الأصغر عمار شيلا، الذي كان يراسل العزيزة (الرأي العام) وهو طالب جامعي في بدايات خطواته في مهنة المتاعب والأرق، وهو الآن مراسل الشروق من القاهرة، لي حب عميق وتقدير جم لهذا الشاب المتميز في خلقه ومهنيته ودينه. ورغم فارق العمر بيننا اعتبر عمار من أعز الأصدقاء وأقربهم إلى نفسي، فهو يملك ذهن متقد وضمير نقي واستقامة أخلاقية لا تعرف الاعوجاج ولا تتذرع بالمبررات! كنت ساعة الوفاة في إحدى محاكم الصحافة مع قضاياها التي لا تنته، أخرجت هاتفي السيار كان صديقي عمار ضمن قائمة (مكالمات لم يرد عليها) وقبل أن أشرع في الاتصال عليه جاءت رسالة لتخبرني برحيل الأستاذ المعلم فتح الرحمن إبراهيم شيلا: سمح النفس بسام العشيات الوفي الحليم العف كالأنسام روحاَ وسجايا أريحي الوجه والكف افتراراَ وعضايا.