تراودني الفكرة ومنذ مدة للكتابة في هذا الموضوع، وهو بلا شك موضوع شائك يحتاج إلى الجهد والآراء وخاصةً من ذوي الاختصاص في مجال العلوم السياسية وخبراء السياسة من الكُتَّاب والمفكرين وما أكثرهم في بلادي. وهذه الأنظمة السياسية المُشار إليها في هذا الموضوع تتحكم في مصائر شعوبها، فهي إما أن تُوردها موارد الهلاك كما هو مُشاهَد في عالم اليوم وإما أن تقودها ولو نسبياً إلى بر الأمان. هنالك تقسيمات لهذه لأنظمة الحكم أقرها علماء أجلاء وأعطتْ دراساتهم نتائج قيمة ومُفيدة لمن أراد الإفادة منها أو الإنتفاع بها. أولي هذه الأنظمة في عالم اليوم هو حكم الأقليات(The rule of the few) وهو المتمثِّل في الانقلابات العسكرية وتنقسم هذه الأقليات نفسها إلى فاضلة بمعني أنّ الإنقلاب يبدأ في أوله أبيض دون إراقة دماء، ثم وبعد برهةٍ ينقلب إلى دموي وذلك عندما تتصدى له المعارضة السياسية فحينها يُنكِّل بها ويُشرِّد أفرادها دونما رحمة ويقوم بحل المؤسسات الدستورية التي كانت قائمة قبل مجيئه مثال على ذلك حكم الأقليات في أفريقيا وآسيا ودول أمريكا اللاتينية. فقد أدخلت هذه الأنظمة السياسية شعوبها في مآزق كبيرة أزهقت الأرواح وأرهقت الموارد واستنفدتها في الصراعات الداخلية وعانت هذه الشعوب من جراء ذلك الفقر والعنت والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وهذا النوع من الأنظمة يطرح شعارات برَّاقة إرضاءً للمواطن لتحقيق أكبر قدر من طموحاته وآماله، ولأنّ هذا يكون دائماً على عجلة من الأمر تتم إصلاحات اقتصادية مُقدَّرة لكن الثمن يكون فادحاً ومكلفاً قد يُحدث مرارات وإحنا وأحقادا تُلازم النظام حتي إسقاطه والتخلص منه. القسم الثاني هي الأنظمة الملكية ومنها المُطلق الذي لا تحده حدود، فالملك تكون سلطاته غير مقيدة بدستور، وهو نظام كذلك لا يسمح مُطلقاً بالمعارضة السياسية وإن وُجدتْ أينما كانت فهو ينكل بها ويشرِّد أعضاءها. ونوع آخر هو الملكية الدستورية فالملك يملك ولا يحكم وأضرب مثال على ذلك من بريطانيا فالسلطات هنالك بيد البرلمان والمسئولية جماعية، فالحكومة يعينها البرلمان ويسقطها وليس الملكة التي تملك ولا تحكم. كذلك أنظمة الحكم في الأردن والكويت أنظمة دستورية وليست مطلقة. أدلف إلى قسم آخر من أنظمة اليوم هو النظام السياسي في الهند، هنا نلاحظ أنّ النظام برلماني تعددي وليس رئاسياً ولكن رئيس الوزراء فيه أو الجهاز التنفيذي (الحكومة) يكون قوياً وشبه دكتاتوري ويميل كثيراً إلى إعلان حالة الطوارئ ليتمكن من البقاء لأطول فترة خوفاً من إسقاط الحكومة بواسطة المعارضة ومثال على ذلك حكم إنديرا غاندي للهند التي كانت تعلن حالة الطوارئ مراراً وتكراراً إلى أن لقيت حتفها من جراء ذلك. والرئيس الهندي ليست له سلطات تنفيذية فهو يُعيَّن من داخل البرلمان ولكنه يظل رمزاً فقط. الهند كما هو معلوم كانت مستعمرة بريطانية وآثرت أن تتأسّي ببريطانيا في كل شيء وخاصة أنظمة الحكم التي تركها الإنجليز مستجيبةً في ذلك إلى مؤسس الهند ورائد إستقلالها بابو (Papu) المهاتما غاندي. وهذا النوع يُطلق عليه علماء السياسة نظام ديمقراطي تعددي غير كامل الديمقراطية بمعنى انّ السلطة التنفيذية (الحكومة) تكون أقوى من بقية السلطات الأخري وأعني بها التشريعية والقضائية. وهنا نلاحظ أنّ نظرية فصل السلطات تكون ضعيفة وغير متزنة وهذه النظرية_ فصل السلطات_ أتت بها الثورة الفرنسية عند قيامها عام 1789 ودعا إلى تطبيقها الكثير من الكتاب من أمثال مونتسكيو الأب الشرعي لنظرية فصل السلطات في فرنسا وزميله في عصر التنوير فولتير وفي بريطانيا دعا لها أيضاً كُتّاب كبار من أمثال جون لوك وغيره. وهذا الفصل بين السلطات لا بد منه لأنّ الإنسان قد يطغى إذا تُركت له كل السلطات في يده ففي القرآن الكريم:( كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7)) سورة العلق..استغنى بسلطة أو مال أو قبيلة والإنسان بطبيعة الحال إذا استغنى طغى. ولكن هذه السلطات الثلاث كذلك لا تعمل في جُزر منعزلة بل تعمل في تناسق وتناغم دون إزدواجية أو تداخل مُخِل. ثمة نوعٌ آخر من أنظمة الحكم هو النظام الديمقراطي التعددي الغربي الذي تمثله الولاياتالمتحدةالامريكية بنظامها الرئاسي، وفي هذا النظام يُنتخَب الرئيس لمدة ثماني سنوات فقط هذا إذا كان أداؤه جيداً وأقنع الناخب بالتجديد له لدورة ثانية أما إذا كان ضعيف الاداء فيحكم أربع سنوات فقط، فالدستور يحدد ذلك . يتنافس على حكم الولاياتالمتحدةالامريكية حزبان كبيران ومن الصعوبة بمكان تغيير الدستور في أمريكا أو التلاعب به فرواده الذين وضعوه جعلوا له ضمانات تقيه هذا التلاعب. هنالك فصل تام بين السلطات وتتمتع الصحافة بحريات فيما تكتب وليس هنالك حجر أو رقابة على حريات الآخرين. وحريتك تقف عندما تبدأ حرية الآخرين.أيضاً من أنظمة الديمقراطية الغربية هو النظام البرلماني في بريطانيا وفيه نجد أنّ السيادة المطلقة تكون لدى البرلمان، فهو الذي يصنع القوانين وليس هنالك دستور مكتوب له السيادة كما في الولاياتالمتحدة بل السيادة المطلقة هو البرلمان فالحكومة يكونها الحزب الذي حاز غالبية المقاعد داخل البرلمان وإذا كانت أغلبيته لا تمكنه أن يحكم بمفرده يلجأ إلى التحالف والإئتلاف مع بقية الأحزاب وهذا نمط ضعيف لا يُفضله الإنجليز. الحكومة الآنية التي تحكم في لندن برئاسة ديفيد كاميرون هي حكومة إئتلافية وليست لحزب واحد، فالمحافظون لديهم شريك معهم في الحكم هو حزب العمال. هنالك حكومة الظل في النظام البرلماني تُراقب أداء الحكومة ومن حقها أن تطرح الثقة فيها ولذلك فإنّ الحكومة تكون حريصة دائماً وأبداً أن يكون أداؤها ممتازاً ومُرضياً، فالناخب يُراقب والصحافة تكتب والمعارضة بالمرصاد تُقوِّم وتُوجِّه بل وتُسقِط الحكومة. ومن نافلة القول إنّ نظرية فصل السلطات تعمل عملها المحايد ولا تخشى سلطة أخرى أقوى منها قد تتدخل في عملها بشكل أو بآخر. أيضاً هنالك نمط آخر من أنماط الحكم في العالم هو النظام المختلط كما في فرنسا، وعندما تسلّم شارل ديجول الحكم في فرنسا كانت الدولة غير مستقرة سياسياً والحكومات تتغير كثيراً _ وكما يقولون إذا عُرف السبب بطل العجب _.. فديجول بما له من حنكة وحكمة قام بإلغاء الجمهورية الرابعة أي الدستور الرابع وعمل على صياغة دستور جديد أسماه باسمه ووضع في الدستور مواد قوّتْ من سلطات رئيس الجمهورية وأضعفت سلطات الجمعية الوطنية الفرنسية. ويُشير منتقدو الدستور الفرنسي إلى أنّ به عيوبا في بعض مواده كما أنه جعل من الرئيس الفرنسي شبه ديكتاتور بأن أعطاه صلاحيات وسلطات واسعة. ولفرنسا أيضاً نظام برلماني فرئيس الوزراء حسب الدستور له حكومة يمكن للحزب ذي الأغلبية من داخل الجمعية الوطنية أن يكونها وهنالك معارضة بإمكانها طرح الثقة وإسقاط الحكومة بسبب ضعف الأداء. والرئيس الفرنسي يُنتخَب إنتخاباً مباشراً في استفتاء عام ضمن آخرين من قِبَل الشعب وهو ليس مسئولاً أمام الجمعية الوطنية لأنها لم تنتخبه بل يستمد شرعيته من الشعب. ومدة الرئاسة الفرنسية ست سنوات حسب الدستور. والنظام الفرنسي هو أحد خيارات الحكومة المصرية القادمة فقد صرح الحزب الذي اكتسح الانتخابات الأخيرة بجمهورية مصر أنهم سيأخذون بالنظام المختلط كما في فرنسا وهذا بطبيعة الحال بعد إقرار الدستور المرتقب. وأخيراً أتحدث عن أيها الأفضل لحكم السودان النظام الرئاسي أم النظام البرلماني؟ أقول إنّ السودان بدأ برلمانياً تعددياً وهو أول قطر في أفريقيا طبق التداول السلمي للسلطة وهو لم يزل بعد في أول مدارج العهد الوطني وكانت حكوماته تسقط من داخل البرلمان .. تسقطها المعارضة (حكومة الظل) ويقال وهذه حقيقة أنّ المناقشات تكون ساخنة بين الحكومة والمعارضة داخل قبة البرلمان ولكن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية فتجدهم وكأنّ شيئاً لم يكن (ببوفيه البرلمان) وهذه إحدى ثمرات الديمقراطية (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159))سورة آل عمران.. (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (38)) سورة الشورى. لكن النظام البرلماني له ميزاته كما له عيوبه التي منها أنّ الحكومات تتعرض للانهيار بسبب طرح الثقة عنها وتتعرض كذلك للإئتلافات الكثيرة إذا لم يتحقق الحصول على الأغلبية المريحة التي تُجيز تشكيل الحكومة بانفراد.وهذا قد حدث كثيراً للأحزاب السودانية الكبيرة الشيء الذي اتسمت معه فتراتها بعدم الاستقرار السياسي مما جعل السودانيين يفضلون النظام الرئاسي على البرلماني وله ميزات أهمها أنّ رئيس الجمهورية ينتخبه الشعب إنتخاباً مباشراً وليس من داخل البرلمان ثم إنّ وزراءه مساعدون إداريون فقط يختارهم ويعفيهم بمقتضى الحال. والدستور كما في التجارب العالمية يقيد فترات الحكم كذلك فإنّ النظام الرئاسي يضمن الاستقرار السياسي ويفتح المجال واسعاً لمشاريع التنمية كي ينفذها الرئيس المنتخب في ظل الانفجار السكاني ومشكلات الندرة الاقتصادية الآنية والتي تمثل تحديات كبيرة يشهدها العالم اليوم وقد انعقد مؤتمر ديربان بجنوب أفريقيا مؤخراً وهو يقر مساعدات مالية ضخمة بغية إيقاف التدهور المناخي والبيئي ونأمل أن يستفيد منه السودان في إيجاد منفذ لتدفقات مالية لتنفيذ مخططات لصالح أنظمة بيئية وسكانية من شأنها الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الاستقرار السياسي الذي هو صمام أمان الاستقرار الاقتصادي المنشود. * خبير إداري