مقاعد البرلمان القومي، ونظيراته الولائية، وحتى مثيله في الجنوب، ليس التنافس عليها ذا شأن يذكر في الانتخابات المقبلة، مقارنة بمقعد رئيس الجمهورية، ومقاعد الولاة، ورئيس حكومة الجنوب، التي تمثل «الكعكة» الحقيقية الجديرة بالتنافس المحموم على قضمها، أو قضم اكبر جزء منها، ذلك بإختصار، مضمون حديث د. مختار الأصم المحلل السياسي وعضو المفوضية القومية للانتخابات، الذي أعتبر في ندوة نظمتها «الرأي العام» يوم الاثنين الماضي حول مخاطر وتأمين الانتخابات، أن مقاعد الجهاز التنفيذي -مناصب الرئيس ورئيس الجنوب، والولاة- ستكون المعترك الحقيقي للمتنافسين. ما ذهب إليه الأصم، في واقع الأمر، يلامس حديثاً آخر لبعض السياسيين والمتابعين، يطالب بنبذ نظام الحكم الرئاسي الذي أقرته اتفاقية نيفاشا، والعودة إلى النظام البرلماني، على أعتبار أن النظام الأول يجمع قدراً كبيراً من الصلاحيات في يد رئيس الجمهورية، ما يجعله مركز القوة الوحيد تقريباً في البلاد بأسرها، بينما يشارك البرلمان في النظام الأخير رئيس الوزراء -الذي يختاره من بين نوابه أنفسهم- القوة والنفوذ السياسي، وممن دأب على المناداة بالرجوع إلى النظام البرلماني، ونبذ النظام الرئاسي، النائب البرلماني، والقيادي الاتحادي على السيد،وبقية القادة الاتحاديين الذين تحدثوا مراراً عن سلبيات نظام الحكم الرئاسي وعدم تلاؤمه مع السودان، وبلغ حد وصفه بالشمولي. تحديد د.الأصم للأساسي والثانوي في الانتخابات المقبلة، يضمر تقييماً بعينه لأهمية البرلمان، ربما لم يكن لدى الأصم وحده، بل يشاركه فيه كثيرون، بفعل محدودية دور البرلمان الحالي، وقلة حيلته، التي يذهب البعض في التدليل عليها إلى تجاهل بعض المسئولين أو تباطؤهم في تلبية طلبات المثول أمام البرلمان، ويرجع فاروق أبو عيسي النائب البرلماني والقيادي بالتجمع الوطني الديمقراطي الانطباع العام بعدم قيمة البرلمان إلى إضعاف النظم العسكرية مبدأ الفصل بين السلطات، ودور الجهاز التشريعي، بعد أن جعلت كل السلطات في يد الرئيس، ما يدفع برأيه، الجماهير إلى عدم الاكتراث بالانتخابات. علاقة نظام الحكم الرئاسي بالشمولية في السودان، ليست وليدة اتهامات الاتحاديين ، لكنها ترجع إلى التاريخ السياسي، فبينما تفضل القوى السياسية في العهود الديمقراطية نظام الحكم البرلماني، تقع الأنظمة العسكرية في غرام النظام الرئاسي، الذي يبدأ أول أمره بمجلس عسكري حاكم، يشبه في ظاهره مجالس السيادة أو رأس الدولة الموجودة في العهود الديمقراطية، لكنه يختلف عنها في أن برلماناته صورية، وأن أعضاء المجلس العسكري لا يتناوبون فيما بينهم رئاسته مثلما يفعل أعضاء مجلس السياد ة. ضعف دور المجلس التشريعي القومي، والمجالس التشريعية في الولايات في مواجهة الرئيس، والولاة، ملاحظة لا يجد حتى أعضاء هذه المجالس غضاضة في الاعتراف بها، لكن ما يبدو على أنه ضعف للبرلمان الراهن، ليس مستمداً من الدستور الانتقالي في واقع الأمر، فالدستور الحالي يمنح البرلمان صلاحيات سن التشريعات، وإقرارها بقبول رئيس الجمهورية أو بدونه، وصلاحية سحب الثقة من أي وزير، ما يجعل الرئيس ملزماً بتغييره، لكن مثل هذه الصلاحيات البرلمانية لم تمارس خلال السنوات التي أعقبت نيفاشا بسبب سيطرة المؤتمر الوطني الحاكم على الأغلبية البرلمانية. البرلمان الحالي ونسب تمثيل الأحزاب فيه، أقرتها نيفاشا التي يصفها أبو عيسي بأنها تسوية سياسية لإنهاء الحرب، لم تهتم كثيراً بجانب الفصل بين السلطات، ما جعلها تسكت عن كثير من الأشياء في هذا الإطار. الحالة التي يمكن أن تتغير فيها الصورة السياسية بصورة كبيرة، وتتضاعف فيها قوة البرلمان ونفوذه، يمكن أن تسفر عنها الانتخابات المقبلة، ويقول ابو عيسي أن وجود برلمانات منتخبة تسيطر عليه قوى حزبية غير حزب الرئيس أو الوالي، سيحظى بقدرة أكبر على الفعل في المستويين القومي والولائي، ولا يستبعد أن يؤدى ذلك لنوع من الإرتباك الديمقراطي بفعل اختلاف وجهات النظر بين الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي، لكنه يضيف أن قواعد الدستور واللعبة الديمقراطية نفسها كفيلة في نهاية المطاف بحل مثل هذه المشكلات. ويؤكد صالح محمود عضو لجنة التشريع والعدل بالبرلمان أن للمؤسسة التشريعية دوراً حتى في ظل الأنظمة الرئاسية، غير أنه دور ضعيف خاصة في الظروف الحالية، ويتوقع محمود بدوره أن يتعاظم دور البرلمان وفعاليته إذا اسفرت الانتخابات المقبلة عن أغلبية غير موالية لحزب الرئيس، أو الوالي في المستوى الولائي، ويمضي إلى انتقاد نظام الحكم الرئاسي على أعتبار أنه غير ملائم لظروف السودان وتعدديته الدينية والعرقية والثقافية، ويتوقع أن يطرح موضوع تغيير نظام الحكم من رئاسي إلى برلماني بقوة أكبر عقب الانتخابات، خاصة في حال فوز القوى المعارضة بأغلبية في الجهاز التشريعي. ضعف البرلمان في ظل النظام الرئاسي، يمكن اعتباره حالة سودانية راهنة لا غير، فبالنظر إلى التجارب العالمية للدول التي تتبني نظام حكم رئاسي، يحافظ البرلمان على دور فاعل في السياسات الداخلية والخارجية، كما هو الحال في الولاياتالمتحدة التي تتبنى النظام الرئاسي، إذ يحافظ الكونغرس على نفوذ دائم في السياسة الأمريكية، كما حدث في فترات أن حكم رئيس جمهوري البيت الأبيض، وسيطر الديمقراطيون في المقابل على الكونغرس، دون أن يؤدي ذلك إلى إضطراب أو عدم استقرار، ذات الحال في فرنسا التي تتبنى نظام حكم شبه مختلط، يقرر فيه الرئيس شئون السياسة الخارجية والدفاعية، بينما يتفرغ رئيس الوزراء للشئون الداخلية، وتحافظ الجمعية التأسيسة الفرنسية على دور فاعل أيضاً، إذ تلزم موافقتها على سياسات الرئيس الخارجية والدفاعية. إمكانية تضاعف نفوذ البرلمان عقب الانتخابات، تعيد الحديث عن احتمال نشوب أزمات سياسية، ودخول البلاد في حالة من التجاذبات السياسية تفضي إلى عدم الاستقرار، تشابه ما حدث في العهود الديمقراطية السابقة، وحتى في دول قريبة كلبنان، ويعترف صالح محمود بإمكانية حدوث عدم انسجام بين برلمان تسيطر عليه قوى حزبية، ورئيس ينتمي إلى قوى سياسية مغايرة، لكنه يضيف أن هناك ضمانات وفرها الدستور عبر تحديد صلاحيات كل طرف، ويقول: «إذا مارس برلمان منتخب دوره وصلاحياته وفق الدستور، فليس على الرئيس سوى السماع».