حكايات وقصص من قاع دنيا تَتَشَكَّل في عمقِ الصحراء (3) معسكرات الدهابة جاذبة للمجرمين والمنحلين أخلاقياً... ولكن! حالتي اغتصاب خلال (6) شهور و(6) طعن بآلة حادة شهرياً قسم شرطة دلقو تَحَوَّل من استراحة إلى خليَّة نحل الشمالية: قذافي عبدالمطلب هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته بين يدي جبل صخري مهيب يبدو سوق الدهب بدلقو من على البعد كواحدة من تلك الاستراحات الخلوية المنتشرة على طريق دنقلا وادي حلفا، لكن ما يبدو مجرد لافتة تخفي خلفها دنيا بكل ما تحمل كلمة دنيا من أبعاد وتفاصيل؛ مجتمع فريد التكوين، يتشكل من الذكور فقط، يضج بالمتناقضات، صراعات وتسامح، هدوء وصخب، مآسي ومغانم، فقر وثروة، حكاوي وقصص لا تنبت ولا تكتمل فصلولها إلا في تلك البيئة الصحراوية الاستثنائية. (السوداني) جاست في مناطق وأسواق التعدين الأهلي بالولاية الشمالية لأيام، ورصدت أدق تفاصيل ما يجري فيها وتأثيرها على البيئة والمجتمعات من حولها. العنف الجنسي يتشكل مجتمع الدهَّابَة من مجموعات وأفراد قادمين من جهات وبيئات متباينة وثقافات متغايرة، وينعكس أثر التباين في ملامح الناس وسلوكهم، ويظهر جلياً حتى في الطريقة التي يتناولون بها طعامهم، والمتوقع في مجتمعٍ كهذا أن تنتشر بؤر الإحتقان وترتفع احتمالات الصدام بين مكوناته أو مع أهالي المنطقة، كما هو الحال في بعض مواقع التعدين الأهلي، وإن كان لابد من مثالٍ فلن نجد أفضل من أحداث جبل عامر الدموية. لكن كيف تمضي الأمور في مناطق التعدين الأهلي في الشمالية، وبالتحديد في محليتي دلقو وحلفا؟ البحث عن الإجابة قادنا إلى محطتين؛ الأولى مستشفى دلقو الريفي لقراءة مؤشرات إصابات العنف الجسدي التي كانت مرتفعة، كما توقعنا عطفاً على المعطيات، لكننا تفاجئنا بوجود عنف جنسي أيضاً؛ حيث استقبل المستشفى خلال ال(6) شهور الماضية حالتي اغتصاب لأطفال يعملون في مناطق التعدين، ويقول مصدر أمني طلب حجب اسمه أن ما سجله المستشفى ربما يُمَثِّل الجزء الظاهر من جبل الجليد لعدة اعتبارات؛ منها أن ضحايا هذا النوع من الجرائم عادةً يؤثرون الصمت خوفاً من الوصمة الاجتماعية، كما أن الوجود الكبير للأطفال والصبيان في مدن الذهب ومواقع التعدين، وهم في الغالب أطفال فقراء، يجعلهم عرضة للاغتصاب والإستغلال الجنسي في مجتمع كمجتمع الذهب وتكوينه غير الطبيعي، ورَجَّح المصدر أن تكون معظم جرائم الاغتصاب في مواقع الآبار البعيدة عن الحَضَر، ويضيف ذات المصدر أن مدن الذهب تتوفر فيها الكثير من العوامل الجاذبة التي تستقطب الخارجين على القانون والمنحلين أخلاقياً، وشخصياً كنت طرفاً مساعداً في القبض على أحد المجرمين، لكن كان ذلك في ولاية أخرى. ورَدَّاً على سؤال حول ما إذا كانت مدن الذهب ستشكل مستقبلاً خطراً؟، يقول لا أعتقد أنها ستشكل خطراً، فالسواد الأعظم من مجتمع المعدنين ملتزم أخلاقياً ودينياً ويبحث عن الرزق الحلال، ونحن عندما نتحدث عن المظاهر الاجتماعية والأمنية السالبة، نتحدث إما عن حالاتٍ شاذة أو أفراد قليلين اخترقوا هذا المجتمع لاعتقادهم بأنه يُوَفِّر لهم بيئة مناسبة لممارسة جرائمهم. مؤشر العنف مرتفع أما العنف الناتج عن الصدامات فهي كثيرة لدرجة أن المستشفى يقوم باستخراج عدد (2 إلى 3) أرانيك (8) جنائية في اليوم، واستقبل (15) حالات إصابة في الرأس خلال شهر واحد، و(6) حالات طعن بآلات حادة خلال ذات الفترة، فضلاً عن الوفيات التي يتراوح عددها من واحد إلى إثنين في الشهر، وهي الوفيات تنتج حسب الدكتور مجيب الرحمن سيف الدين المدير الطبي للمستشفى عن حوادث المرور وانهيار آبار التنقيب على رؤوس العمال. المحطة الثانية التي توقفنا عندها لقراءة مؤشرات العنف كانت قسم شرطة دلقو، وبطبيعة الحال لم نحصل فيه على معلومة لأننا لم نكن نحمل تصديقاً من الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة، لكننا اصطدنا مفارقة صادمة تُقَدِّم صورة واضحة للتحول الذي طرأ على الوضع الأمني في المنطقة. ففي العام 2005م قضى المحرر ليلةً بقسم شرطة دلقو، وقتها كان القسم أقرب إلى استراحة ينتظر فيه المواطنين المتوجهين شمالاً إلى وادي حلفا وجنوباً إلى الخرطوم المواصلات، ولم يكن بحراسة القسم مسجون واحد، بل أن أحد عناصر الشرطة أَكَّد أنه لم يستقبل سجيناً واحداً منذ أكثر من ستة أشهر، الآن الوضع مختلف تماماً، لا أدري ما حَلَّ بالحراسة على وجه الدقة فقد حال انعدام وجود إذن الناطق الرسمي دون زيارتنا لها، لكن دفتر البلاغات الذي كان يعلوه التراب الآن لا يكاد يُطوَى إلا ليُفتح بلاغ جديد، كما أن أعداد الشرطة تزايدت وتم إنشاء قسم جديد وترفيع مدير القسم من مساعد إلى رتبة أعلى. التحول الذي حدث في قسم الشرطة، على الرغم من أنه مبني على ملاحظات ومقارنات وليس على معلومات وإحصائيات؛ إلا أنه يعكس مدى تأثير التعدين الأهلي على مجمل الأوضاع في المنطقة، وتتباين نظرة السكان المحليون لهذا التأثير بين من يراه خطراً محدقاً بالمنطقة ومن يضعه في خانة الإيجابيات، ومن هؤلاء سليم محمد الذي يعتبر أن بلاغات العنف والسرقة إن كانت معدلاتها تتوافق مع الوجود السكاني الكثيف ونشاطه الواسع دليل على حيوية المنطقة؛ فالحياة، وفق فلسفته، تَدَافُع وتجاذب، كما هو الحال في مفاصلات البيع والشراء، لذلك فإن سليم يعتبر ما يحدث أمراً إيجابياً ويضيف: كانت المنطقة في الماضي محتضرة بسبب هجرة أبنائها بحثاً عن فرص العمل التي كانت منعدمة تماماً، والآن معظمهم يعودون، وخزائن المحلية التي كانت خاوية انتعشت، وسرت الحياة في شرايين المنطقة بمجملها، لذلك أقول أن الآثار الإيجابية للتعدين الأهلي والإستثماري أكثر من الآثار السلبية. الأهالي.. شك وريبة! لكن غالبية السكان المحليين يخالفون سليم، وهذا موسى أحمد، وهو رئيس لجنة شَكَّلَها الأهالي لمعالجة المترتبات السلبية لمدينة الذهب بالخناق، يقول أن أضراراً كبيرة تلحق بالأهالي من نشاط التعدين الأهلي، ومنها أن الكثافة السكانية التي أحدثها ألحقت أضراراً كبيرة بالبيئة في المنطقة، التي ليس بها المرافق التي يمكن أن تستوعب هذا الكم من البشر والنشاط الذي يقومون به. ومن أبرز الإشكالات البيئية الغبار الكثيف الذي تطلقه طواحين الصخور التي لا تتوقف مطلقاً، وترسل إلى القرى هواءً عالي التلوث بالغبار المتصاعد من عملية الطحن، فضلاً عن أنها تتسبب أيضاً في اضرار في حاسة السمع إذ أنها لا تصمت مطلقاً. وتفرز عمليات استخلاص الذهب من الصخور المطحونة الكثير من المخلفات، بدايةً فالصخور المستجلبة من منطقة المثلث غيرت من طبيعة الأرض التي تعرَّضت إلى الكثير من الحَفْر العشوائي، واختلطت بها التربة الملوثة بالزئبق وغيره من المعادن، فتحولت إلى مزيج غريب تُشَكِّله بقايا الصخور ومياه تنقية الذهب والزئبق، وهي مادة ثبتت أضرارها البيئية الكبيرة. هذا الخلل البيئي الناجم عن عمل هؤلاء، وهي أضرار واضحة للجميع، ستبقى، حسب موسى، حتى بعد أن يرحل المعدّنين، وربما كانت هناك أضرار خافية عنا وتحتاج إلى آراء أو دراسات فنية. ويضيف موسى: إن هناك جانباً آخر في المشكلة البيئية يتمثل في وجود هذه الحشود في تخوم قرى ليست مهيأة أصلاً لا من حيث الخدمات ولا المرافق لاستيعاب هذه الكثافة العالية؛ ليس بالأسواق ما يكفي من دورات المياه، الأمر الذي جعل السواد الأعظم من الوافدين يلجأون للاستعاضة عنها بالخلاء. وبطبيعة الحال ما يترتب على هذا الوضع معلوم، لكن ما هو ماثل في الخناق أسوأ من أن يحيط به الخيال مهما اتسع. وتنتج هذه الحشود كميات ضخمة من النفايات التي تتمدد محتلة وجه الأرض في كل الاتجاهات، وتصل الطائرة منها بفعل الهواء إلى القرى وتنتشر تلال (الزبالة) المكونة من النفايات الجافة و(اللينة) من بقايا الطعام والمياه الملوثة وسط السوق وفي محيطه وترتفع كل يوم في ظل عدم وجود نظام فعال لترحيلها وطمرها. وينظر الكثير من الأهالي إلى نشاط التعدين بشكل عام بعين الريبة، ويقولون أنه عملية نهب واسعة للمواقع الأثرية المنتشرة في منطقتهم، وتُرَدِّد المجالس الكثير من الحكايات التي تروي قصصاً عن سرقة وتخريب مواقع أثرية هنا وهناك، ويسود أيضاً اعتقاد واسع بأن المنطقة لم تستفد من عائدات الذهب الذي ترتفع أصوات بتخصيص نسبة منها لصالح مشروع ربط المنطقة بالشبكة القومية للكهرباء. الحكومة (كلو تمام) ويجيب عبدالباقي عيسى المسؤول عن سوق دلقو عن سؤالنا الذي طرحناه عالياً ويقول أن الأوضاع الأمنية بالذات، مقارنةً بما نسمعه عن مواقع في ولايات أخرى، مستقرة بشكل كبير، وإلى الآن لم تشهد مناطق التعدين صدامات جماعية أو أي مشاكل كبيرة هددت الأمن العام، وحتى التجاوزات التي تحدث يرتكبها أفراد وهي أيضاً، إذا ما قارنَّها بالكثافة السكانية وطبيعة تكوينها، أقل من المتوقع، وعادةً لا تتعدى الإعتداءات الفردية وبعض جرائم الخمور وبعض حالات السرقة. وهو ذات ما قاله الضابط الإداري لوحدة عبري الإدارية التابعة لمحلية حلفا عبدالفتاح محجوب، الذي قال أن الإشكالات التي تواجههم بسيطة ومتوقعة كالسرقات والنزاعات على الآبار والأراضي ويتم حلها عادة بالتعاون مع الدهابة أنفسهم وأضاف: سوق الخناق يعمل فيه أكثر من (4) ألف شخص، ويشرف عليه (9) عناصر فقط من الشرطة، وهذا يوضِّح مدى الاستقرار الذي يعيشه الناس هنا. وفي كلتا المحليتين ينظر المسئولون للإشكالات التي يشكو منها الأهالي والدهابة بشيء من التهوين، باعتبار أنها قضايا صغيرة يمكن التعامل معها طالما أن الأمن العام مستتب، لكنهم يعترفون بها ويقولون أن قضايا كتخريب التربة والعنف أمور ملازمة للتعدين، ونتيجة طبيعية لتكوين مجتمعه لا يمكن اجتثاثه ولكنهم يجتهدون للحدّ منه، ويؤكدون أيضاً أنهم يجتهدون لمعالجة غيرها من المشاكل؛ كالنفايات بزيادة عدد المركبات العاملة كما هو الحال في دلقو وإلغاء العقد مع المتعهد وتحويل مسئولية تنظيف السوق إلى المحلية مثلما حدث في محلية وادي حلفا.