ذهبت ضرتها إلى القبر وجاءت هي الى السجن!! الحلقة الثانية أثناء انتظاري في غرفة (الإذاعة) ب (دار التائبات) بأم درمان للجلوس مع إحدى النزيلات ومن ثمَّ الاستماع لتفاصيل قصتها التي لخصت لي المشرفة الاجتماعية ملامحها بقولها: ( لقد قتلت ضرتها)..!! ولأنه مصيري بل لأنه المُبتغى الذي من أجله زرت ( دار التائبات)، جلستُ وجهاً لوجه أمام شابة في مقتبل العمر فعرَّفتني بنفسها قائلة:( أنا "......." من مواليد أم درمان.. والدي يرحمه الله كان يعمل (نظامياً).. كنت (شاطرة جداً) في مراحلي الدراسية إلى أن تخرجت عام (2002م) من كلية التجارة حيث درست المحاسبة بجامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا.. وفوق كل ذلك أنا الآن أم لطفلة جميلة أشتاق إليها كثيراً). أنا من جانبي وقبل أن أتحدث إليها قلت في نفسي ( لا مشكلة لتبادل الحديث إلى أن تحضر النزيلة). فسألتها: هل تعملين هنا؟! اكتفت ب (لا). لأعرفها بعدها بنفسي فقاطعني قائلة: (أيوه يا أستاذة قالوا لي دايراني أحكي ليك قصتي).. تسمرت وقتها طويلاً فلم يدر بخلدي أنها هي من أُريد. فاجأتني بصغر سنها مقابل كبر الخطأ الذي وقعت فيه... لكنها فاجأتني أكثر عندما تحدثت ملقية باللوم على نفسها فيما انتهت إليه وظلت طوال حديثها لي (تجلد ذاتها) بأسلوب محزن ودموع غزيرة تكشف معاناة هذه الشابة حتى اضطررت لإنهاء الحديث... والشد من أزرها ودعوتها للتفاؤل وأن الحياة مازالت أمامها والمستقبل ينتظرها بكثير من الأمل؛ لتعود أكثر صلاحاً بعد هذه التجربة الخاطئة التي وقعت فيها واستفادت منها بالتأكيد أو هكذا ينبغي أن يكون الحال. تحقيق: فاطمة خوجلي زوجة ثانية (س) أكملت لي تعريفها بنفسها بأن ترتيبها الثانية من بين خمس أخوات وولدين. وأن والدها توفي وهي مازالت في المراحل الدراسية الأساسية حيث كانت في الصف (السابع). وفيما يبدو أن عزيمتها كانت قوية لتربية إخوتها فكانت تعمل أثناء فترة دراستها. وحول هذا تقول: درست (المحاسبة) ومن ثم درست (التمريض العالي) بغرض (ممارضة) الوالدة في المنزل مؤكدة بقولها: (أنا أولى برعاية والدتي). وفيما يبدو أن برها بوالدتها منعها من الاستعانة بشخص آخر. (س) أخبرتنا أنها تشتاق لطفلتها كثيراً وعن زواجها تخبرنا أن (الوُد) الذي كان بينها وبين من ارتضته شريكاً ولأنه بدا لها ملتزماً ذو إحساس عالٍ بالمسؤولية وكذلك عدم منعها من العمل للإنفاق على إخوتها ووالدتها جعلها تقبل أن تكون زوجة ثانية دون أن ينفصل عن الأولى التي لديه منها أربعة أطفال. (س) بتنهيدة سبقت حديثها تقول: تم الزواج ثم بدا لي على حقيقته وانكشف القناع الذي كان يرتديه زوجها وظهر لها ضعفه المتمثل في عدم قدرته على حسم المشاكل التي كانت بينها وبين ضرتها بالرغم من أن كل واحدة منهما في بيت منفصل. قلنا لها إن هذا ليس سببا كافيا للطلاق الذي طلبته فقالت السبب الحقيقي يعود الى عدوله عن موافقته لعملي فضلاً عن أنه لا يصرف علي مع العلم أن حاله ميسور جدا. وقد طلب مني أن أتوقف عن العمل فوراً وقد رأيت أن والدتي وإخوتي هم الأحق بأولوياتي (لم أستطع التضحية بهم). وتمضي في حديثها: عندما طلبت الطلاق كنت (حبلى) وبعد أن (وضعت) طفلتي اجتهد الأجاويد لإرجاع المياه إلى مجاريها لتتربى الطفلة بيننا الاثنين. معاناة مضاعفة لم يكن بالسهولة المتصوَّرة أن تكشف (س) عن قصتها متوغلة في التفاصيل بعد أن قالت لنا إن (الغضب) شكل لحظة فارقة لدمار حياتها حيث أخبرتنا أنها الآن هي هنا في (الدار) تدفع ثمن ذلك الغضب والانفعال خلف القضبان. وأن حقيقة معاناتها هو حرمانها من شبابها بل هناك ماهو أكثر من هذا وهو حرمانها من رؤية طفلتها تكبر أمامها. وتمضي (س) بقولها: إنها دخلت السجن نتيجة (لحظة غضب) دفعت ثمن غضبها وانفعالها وتتذكر الحادثة بكثير من الألم: عندما علمت (ضرتي) عن المصالحة التي تمت بيني وبين زوجي وعودتنا لبعضنا جاءت إلي في المنزل وهي تحمل معها (سكين) وتهجم علي. وكردة فعل طبيعية حاولت الدفاع عن نفسي (لويت يدها وشلت منها السكين) مستدركة أنها تهورت في ردة فعلها بهدف إخافتها ولا شعورياً وجدت نفسي وقد طعنتها بالسكين ضربة واحدة كانت السبب في إنهاء حياتها وحياتي. (س) تقول إن ضرتها نُقلت إلى المستشفى لإسعافها ولكنها تُوفيت في العملية ووصفت لنا كذلك حالتها وهي تقضي يومين في (الحراسة) أن اليوم الثالث جاءتني أمي وإخوتي ليخبروني أنهم تأخروا علي لأنهم (ودو حاجات الفراش) وتضيف في تلك اللحظة عرفت أنها توفيت وأحسست وقتها بندم شديد لأنني لا أعرف القتل ولم أشاهد جريمة في حياتي إلا عبر المسلسلات والأفلام. وتواصل (س) في سرد قصتها فتقول: خمسة أيام وأنا في حالة إنهيار عصبي نُقلت على إثرها إلى مستشفى التجاني الماحي. ومن ثم تم تحويلي إلى (مصحة كوبر) لأقضي فيها سنة كاملة وبعدها قُدمت ل(المحاكمة) وحُوكمت تحت طائلة المادة (131) (القتل الخطأ) وهي (7سنوات) إضافة إلى (دية) ومقدارها (30000 جنيه). (س) دخلت السجن وعمرها (21عاما) قضت من فترتها (5سنوات و3أشهر) وقد طلبت من رئيس القضاء التخفيف في الوضع العام بعد أن دفعت الحق الخاص نسبة لظروف طفلتها التي بحاجة إلى عناية بعد أن تخرجت من الروضة. (س) تشكر مديرة الدار لأنها سمحت لها بالخروج لمدة يوم لمتابعة إجراءات تسجيل ابنتها في المدرسة. ولم تنس كذلك أن تشكر إدارة الشركة التي كانت تعمل بها لحرصها على متابعة راتبها الشهري لتغطية نفقات الطفلة. ووعدوها بمباشرة العمل فور خروجها من الدار. بين الحرمان والقضبان صعوبات كثيرة وكبيرة تواجه (س) عند دخولها إلى الدار. في كيفية التعامل وخطوات مثقلة بالخوف من (الله) لتخبرنا أنها صامت شهرين متتابعين في الدار. وأنها حفظت أجزاء من القرآن وفي ذات الوقت تحمد ربها أنها لم تدخل الدار في قضية آداب مشينة. وأنها تتخوف من بداية معاناة جديدة حين خروجها؛ أطرافها الأهل والمجتمع .. وهذان أشد قسوة من السجّان والقضبان والذل والحرمان. لأنها أرحم حالاً من ساحات المجتمع الرحبة المفتوحة على كل أنواع الاضطهاد والزراية والنبذ والرفض.. فيما تعتزم بدء مرحلة حياة جديدة و«نظيفة»، رغم كل الذكريات الموجعة. شهادة سجينة ووفقاً ل(س) فإنها تعلمت (الصراحة) مع نفسها وألا تظلم أحدا وعدم الحكم على الناس من المظاهر لأن السجن يعري الشخص ويكشفه على حقيقته. وتقول إنها تعمل وفق ثلاث قواعد وهي (احترام النفس- لا أسمع لا أرى لا أتكلم- لسانك حصانك). السجن علّم (س) معنى الحرية وكشف لها أن الأصدقاء الحقيقيون قلة تتحدث(س) بغصة عن العشرات من أصدقائها قبل دخول السجن الذين أضحوا اليوم قلة وعن المجتمع الذي لا يرحم ولكنها تقول سأتعقل ولن أصغي إلى الهمز واللمز لأُعوض أمي وطفلتي عن سنوات الحرمان. تقول(س) بعد أن امتلأت عيناها بالدموع: السجن لا يُنسى مهما حاولت التناسي. في كل مرة تضعين فيها رأسك على المخدة للنوم تصطادك الذكريات الموجعة والمفرحة في آن واحد. ومن تجربتي أوصي المجتمع بالحذر من الغضب حتى لا يقع في الأخطاء الفادحة التي تُكلف الكثير. ويكون ذلك بالتحكم في التصرفات والتروي في ردود الأفعال. لأن الأطفال ينتظرون طلة والديهم عليهم لا قبوعهم خلف القضبان. ظروف حرب يقول رئيس قسم علم النفس بجامعة أفريقيا العالمية د. نصر الدين أحمد الدومة ل(السوداني): إنَّ الغضب يحدث لدى الكثير من الأفراد مما يؤدي إلى ارتكابهم لبعض السلوكيات غير الحميدة. مؤكداً أن شخصية الإنسان يبدأ تكوينها ب(الصفحة البيضاء) التي يولد عليها كما أشار الى ذلك الحديث النبوي. ومن ثم تبدأ رحلة النشأة الاجتماعية والتربية. بمفهوم بسيط مسألة غرس القيم والعادات والتقاليد من خلال التوجيهات والأوامر بداية بالأسرة الأم والأب ومن ثم الأصدقاء والمؤسسات التعليمية والدينية كذلك إضافة إلى الإعلام. ومن ثم فإن مخرجات هذه النشأة تُعطينا نمطا لشخصية مُعينة. الدومة يمضي في حديثه موضحاً أن شخصية الفرد تتكون من مجموعة سمات وعادات وبالتالي هي التي تحدد طريقة تعامله وتفاعله مع مواقف الحياة المختلفة وأن هناك أمر هام يتعلق بمكونات الشخصية الأساسية وهي الجانب (المعرفي) وهو يتعلق بالعقل والجانب (الانفعالي) ويتعلق بالعاطفة ومن ثم الجانب (السلوكي) وهو المسؤول عن تصرفات الإنسان. ولذلك فإن التفاعل أو تصرف أي شخص في أي موقف من مواقف الحياة يكون (مٌتنازعاً) بين (العقل والعاطفة) فأيهما غلب يُعطينا (سلوكاً) وتصرفاً مُعيناً. فعندما يُحكم الشخص في موقف مُعين عقله يأتي التصرف منطقياً وواقعياً. في المقابل إذا حكم عاطفته بعيداً عن عقله فربما كان التصرف بعيداَ عن الواقع. ويشير د. الدومة الى أن الجوانب الوجدانية (العواطف والمشاعر والأحاسيس) لدى الإنسان تُمثل جانباً مهماً من جوانب النمو الإنساني الذي يبدأ عند الطفولة تماماً مثل النمو الجسمي والعقلي وغيرها من جوانب النمو. وبالتالي فإن النمو العاطفي هذا إذا كان جيداً ينعكس إيجابيا على طبيعة الشخصية ومكوناتها وبالتالي نقول إن هذه الشخصية ناضجة من حيث الجوانب العاطفية الإنسانية ولذلك ففي مواقف الحياة المختلفة يستطيع العقل إدارة تلك العاطفة. أما إذا كان هناك اختلال فإن إدارة العاطفة لا تكون بصورة جيدة فتؤدي إلى غلبة العاطفة على العقل. أما فيما يختص ببعض المواقف التي تحدث بين الزوجات (الضرات) هناك ملاحظة أولية وهي أن العادات والتقاليد والثقافة السودانية وضعت كثيراً من التصرفات الخاطئة التي لا تمت إلى (الدين) بصلة مثال لذلك إطلاق اسم (الضرات) بدل (تعدد الزوجات). يبين الدومة أن الاسم الأول (سالب) ويشير إلى أنه يؤثر لا شعوريا على الزوجات فكل واحدة تصف نفسها بأنها (ضرة) للأخرى أي أن كل تصرفاتها تنصب في (الإضرار) بالزوجة الأخرى وبالتالي فإن هنالك استعداد ثقافي مسبق ومن ثم تأتي المواقف المستفزة. وأحيانا سلبية (الزوج) إضافة إلى التدخلات الخارجية (أهل الزوج أو الزوجة) تؤدي إلى (إشعال نار الحرب) بين الزوجات وفي ظل هذه الظروف وإذا ماتوفرت طبيعة الشخصية غير الجيدة كما ذكرت في بداية حديثي فإن أي تصرف مهماً يكن حجمه يمكن أن يحدث وبسهولة. زاوية قانونية ولمناقشة القضية من الزاوية القانونية التقينا بالمستشار القانوني محمد سرالختم حبيب الله " المحامي" فقال : إن تعريف القتل وأنواعه وردت فى الباب (الرابع عشر) من القانون الجنائي لسنة (91) تحت عنوان ( الجرائم الواقعة على النفس والجسم ) حيث عرفت الماده (129) من القانون؛ القتل بأنه (تسبيب موت إنسان حي عن عمد أو شبه عمد أو خطأ). ونصت المادة (130 ) على أنه ( يعتبر القتل عمدا إذا قصده الجاني او قصد الفعل وكان الموت نتيجة راجحة لفعله) وقد عرف القانون كلمة القصد فى المادة (3) (يقال عن الشخص إنه سبب لأثر قصدا إذا سببه باستخدام وسائل أراد بها تسبيبه أو باستخدام وسائل كان يعلم وقت استخدامها أنها تسبب ذلك الأثر أو كان لديه ما يحمله على الاعتقاد بأنها يحتمل أن تسببه ) وقد جاءت عقوبة القتل فى الماده 130/2 من القانون الجنائى بالإعدام قصاصا وبالدية والسجن مدة لا تتجاوز العشرة سنوات فى حال سقوط القصاص وقبول أولياء الدم بالدية. ويستدرك الاستاذ حبيب الله بقوله: لكن نجد أن المُشرِّع حدد حالات على سبيل الحصر يتحول فيها وصف الفعل من القتل العمد إلى القتل شبه العمد (المادة 131/2 ) ومن هذه الحالات ارتكاب الجاني الفعل فى حالة الضرورة لوقاية نفسه أو غيره من الموت فتكون العقوبة المقررة فى هذه الحالة عقوبة القتل شبه العمد والتى حددها المشرع بالسجن مدة لا تتجاوز السبع سنوات دون مساس بالحق فى الدية.