لي صديقة أردنية منذ أيام الطفولة اسمها سوسن، جمعتنا في البدء زمالة الصف قبل أن نصبح صديقتين.. ونحن في المرحلة الإعدادية، كانت لسوسن شلتها من البنات الشوام، وكانت لي شلتي السودانية.. أذكر أن المعلمات في المدرسة كانوا دوما يسعون إلى تفريق السودانيات في فصول متفرقة بحجة أن كثرتهم تسبب بعض الإزعاج!. في وقت "الفُرصة" التي تمتد لساعة إلا ربع، كنا نحتشد نحن (السودانيات) في أحد الأركان، عددنا يزيد عن ثلاثين طالبة.. وكانت لبعضهم عادة سيئة.. يقمن بتصنيف أي سودانية لا تدخل هذه الشلة وتصادق الإماراتيات والجنسيات الأخرى أنها "فاكاها في روحها" و"تتكبر على بنات بلدها".! هذا التصنيف طبعا لم يكن يمنع من الممزاحة والتحدث مع الأخريات، لكن وقت الفرصة كان مقدسا للسودانيات فقط.. أذكر أن أول فتاة تأتي لتبلغنا ببشارة أن جمال فرفور أو أي من المطربين في طريقه إلى العين، فهذا يعني أنها معزومة على حسابنا ما يقارب الشهر!. توثقت علاقتي بسوسن في الفصل وبالتلفونات الهاتفية.. جمعتني بها أشياء مختلفة عن البقية، كان وقتها الاقتتال الفلسطيني الإسرائيلي في ذروته..إذاعة المدرسة الصباحية موضوعها فقط الشهداء وكيفية دعم "الإخوة الفلسطينيين" نستمع يوميا لأغنية الحلم العربي، فتملكنا حب الشهادة.. كانت سوسن ترغب بالاستشهاد في الأردن وأنا في السودان.. كنا نتمنى بل وندعو الله أن تحدث حرب في الدولتين حتى نتمكن من تحقيق أمنياتنا.. صديقتي اختارت أن تستشهد عبر تفجير نفسها بعبوة ناسفة تقتل "الأعداء" المفترضين، في حين كنت أقل جرأة منها، أرغب في الشهادة عبر رصاصة تقتلني بسرعة دون أن أتألم.! .. تسافر سوسن في الإجازة لعمان فتعود لتقول لي "يخرب بيتهم الأردنيين، ما بدهم يدخلوا في حرب". وتمر السنوات سريعة.. فنتحول أنا وصديقتي إلى هواية أخرى، كنا نحب مشاهدة كرة القدم، فريقها المفضل هو ريال مدريد في حين كان فريقي آرسنال، كنا نجامل بعضنا، فتشاهد هي مبارة فريقي وأنا أيضا أفعل!. قررت أن أدرس الإعلام، حتى أتمكن يوما من الأيام من إجراء حوار مع لاعبي المفضل والذي اعتزل قبل عدة سنوات، الهولندي دينيس بيركامب.. غرفة سوسن مليئة بصور اللاعبين، وأنا أيضا، الأمر الذي كان يغيظ أخواني بشدة، لكن لم أكن أكترث للأمر. أما هي، كانت رغبتها دراسة علوم سياسية، على أساس أنها ترغب بتغيير سياسة الأردن، لتدخل بلادها في حرب مع إسرائيل وتتحقق رغبتها!. وبعد سنوات سافرت هي للأردن لدراسة الجامعة وجئت أنا للسودان.. ظل التواصل بيننا قائما إلى أن قل تدريجيا، ولكنه انقطع مع عدد معظم صديقاتي السودانيات إلا أربع منهن.. عرفت أن التي كانت تقوم بتصنيفنا قد تزوجت من إماراتي، فضحكت وأنا أقول "ده ما لها اتكبرت على السودانيين"!. إنها محطات في حياة الإنسان، تؤثر كل منها على المرحلة المقبلة، تتغير المحطات وقد يكون الرابط شعرة لا أكثر.. تكون المعرفة والأمنيات محصورة ومحددة، تبقى في الذاكرة، وتحل محلها أخرى. وأنا في الجامعة وهي أقرب مرحلة لعملي الصحفي، لم أكن أعرف شيئا في السياسة، كانت دفعتي وصديقتي في كلية الآداب، طالبة اسمها هلا بكري حسن صالح.. لم أعرف من هو بكري إلا بعد أن دخلت الصحافة بأشهر.. قابلتها قبل عام ومازحتها قائلة " لو بكري أبوكي، ما ترتبي لي معاه حوار".. تذكرت الأمر وأنا أنظر إلى دفتر قديم، به أسماء لاعبي كرة القدم وصورهم بعد أن نسيتهم تماما، وفي الناحية الأخرى اللابتوب الذي يحمل صور حواراتي مع رموز الحكومة والمعارضة والمسئولين الأجانب!. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته