يدير الملفات الصعبة من الطابق (14) ببرج (العدل) مولانا محمد بشارة دوسة... ثلاث سنوات وسط القضايا الساخنة! تقرير: محمد البشاري مستشار سابق ب(العدل): تمسكه بالنيابات الخاصة أبرز سلبياته أربعة عشر طابقاً تفصل مكتب وزير العدل مولانا محمد بشارة دوسة عن الأرض، في البرج الذي انتقلت إليه الوزارة مؤخراً على شارع الجمهورية، والذي انتقلت إليه وزارته من مقرها السابق وسط الخرطوم، ومن هذا الارتفاع يدير الرجل الملفات الأكثر تعقيداً في البلاد، وأمضى في موقعه هذا ثلاث سنوات، مرت عليه خلالها العديد من القضايا والملفات المهمة والمعقدة، ومع الحديث عن إجراء تعديلات وزارية، فإن التساؤل الذي بات مطروحاً هل سيتسمر الرجل في موقعه، أم أن رياح التغييرات ستطاله ويجد نفسه خارج التشكيل الحكومي الذي دخله بعد انتخابات 2010م؟ ولعل ما سيحدد مصير الرجل العديد من المعطيات يأتي على رأسها جرد حساب منجزاته وإخفاقاته خلال السنوات الثلاث الماضية. تقول السيرة الذاتية لدوسة المولود بمنطقة الطينة بدارفور في العام 1959م، إنه أحد أحفاد السطان دوسة، الذي لازم السلطان علي دينار حاكم دارفور، وقاد جدّه مقاومة الاستعمار الفرنسي على الحدود التشادية، وعاش طفولته الأولى في بيت جده، ولاحقاً شغل والده بشارة دوسة، موقع نائب السلطان في الإدارة الأهلية. وتلقى محمد بشارة دوسة تعليمه الأولي بمدرسة الطينة، في العام 1966م، والتي دخلها مستمعاً، وتزامن وصوله للفصل الرابع مع تطبيق السلم التعليمي الجديد، بإضافة عامين للمرحلة الابتدائية، وبعد إكمالها انتقل لدراسة المرحلة المتوسطة بمدرسة كارنوي بشمال دارفور لمدة ثلاث سنوات، أما المرحلة الثانوية فدرسها بمدرسة الجنينة الثانوية، ومنها بدأت مسيرته السياسية، حيث انضم للحركة الإسلامية، وعلى الرغم من جلوسه لامتحانات الشهادة السودانية، إلا أنه استجاب لرغبة والده بالبقاء جواره، حيث عمل الرجل معلماً بمدرسة الطينة، وبعد عام قدّم للالتحاق بالجامعة، وتم قبوله بكلية الشريعة والقانون، وتم إقناع والده بالسماح له بالدراسة الجامعية. وعلى الرغم من تفوقه وتحقيقه المركز الأول على أقرانه بالدفعة خلال دراسته الجامعية، إلا أنه كان من الناشطين سياسياً، وتم انتخابه ضمن قائمة الاتجاه الإسلامي لاتحاد طلاب الجامعة، وشغل موقع الأمين الأكاديمي للاتحاد في تلك الفترة، التي شهدت صراعاً سياسياً شديداً بين نظام الرئيس الراحل المشير جعفر نميري والحركة الإسلامية، ومن بين الشخصيات التي زاملته بالجامعة، كل من والي كسلا الحالي محمد يوسف آدم، ومدير التلفزيون القومي محمد حاتم سليمان. حينما أقسم الوزير عقب تخرجه في العام 1984م عمل مستشاراً قانونياً للبنك الإسلامي لغرب السودان - الذي تحول اسمه لنبك تنمية الصادرات - وتدرج فيه حتى وصل لموقع رئيس الإدارة القانونية للبنك، ثم التحق بديون النائب العام، وتم اختياره ضمن مجموعة تضم 50 شخصاً، وعمل في عدة إدارات بولايات دارفور، ثم عُيّن مسجلاً تجارياً، وتمت تسميته في العام 2008م رئيساً لمجلس شؤون الأحزاب، وعقب تكوين حكومة الوحدة الوطنية بعد انتخابات 2010م، تمت تسميته وزيراً للعدل. لعل الواقعة الشهيرة هو القسم بالله الذي ذكره دوسة، بعدم وجود أي جهة تتدخل في عمل وزارته، وتأكيده تقديمه استقالته فور حدوث هذا الأمر. وطالما أن الرجل لم يفعل حتى الآن، فهذا يعني عدم قيام أي جهة من الجهات بالتدخل في عمله، وتمتعه بحرية في ممارسة مهامه، وهذا ما يسهل تقييمه في الملفات الكبيرة التي تولتها الوزارة طوال الفترة الماضية، والتي توزعت بين قضايا تتعلق بالشعار الذي رفعته الحكومة لمحاربة الفساد، وملف جرائم دارفور، بجانب استقلال النيابات. مواجهة الأخطبوط في محاولة لفتح الملفات داخل وزارة العدل، نكشف ما لم يخرج سابقاً عن وجود مجموعة محددة من المستشارين بالوزارة، يتحكمون في الأمور داخل الوزارة وحركة التنقلات، وهذا الوضع تشهده الوزارة منذ فترة، وتعاقب عدد من الوزراء لم يستطيعوا تفكيك هذا الأمر، وحتى دوسة عند توليه الوزارة في أول أيامه استمرت هذه السيطرة، إلا أن الرجل قيل إنه يسعى لتفكيك هذا الحلف، وقد أحدث حركة تنقلات خاصة في النيابات ذات العائد المادي العالي، التي سيطر عليها عدد محدود من المستشارين لسنوات طويلة. على رأس الملفات الموجودة داخل وزارة العدل، هي الملفات المتصلة ب(الفساد)، الذي يدور جدل حول وجوده بين الرسميين، الذين يعتبرونه (حاضراً في الأذهان وغائباً عن أرض الواقع)، وبعض المتابعين الذين يشبهونه ب(الأخطبوط الذي يغيب كامل جسده، والذي يكتفي بوجود أيديه المتحركة في أماكن كثيرة)، واستهل دوسة وجوده بالوزارة بتوعد المتهمين بالفساد، وما عضد هذا الاتجاه تعيين وكيل وزارة المالية الأسبق الطيب أبو قناية لمكافحة الفساد، والذي تمت إقالته من منصبه لاحقاً، وقد لوحظ تراجع وتيرة وإيقاع تصريحات الوزير وتهديداته السابقة. رغم ذلك فيحسب لحقبة دوسة فتحها الملف الخاص بقضايا الأوقاف، التي قُدِّم فيها وزير سابق للإرشاد وعدد من معاونيه، والتي ما تزال وقائعها مستمرة حتى الآن إضافة لملف شركة الأقطان. مسار دارفور من بين الملفات ذات الأهمية بالوزارة، هي تلك المرتبطة بدرافور، والذي تحتوي بداخلها على عدد من القضايا المعقدة، أبرزها مساعي تحقيق العدالة بالإقليم، والتحقيق بالجرائم التي ارتكبت، ومحاكمة المذنبين، وقد لوحظت زيادة إيقاع وحراك هذا الملف، بعد خروج قضية المحكمة الجنائية الدولية بشأن دارفور بتعيين مدعٍ خاص بجرائم دارفور، إلا أن هذا المنصب تحول للعنة، وتبادله أربعة مدعين للجرائم انتهوا جميعاً بتقديم استقالاتهم، وكان أول مدّعٍ لها مولانا نمر إبراهيم، أول مدّعٍ لجرائم دارفور، تلاه مولانا عبد الدائم زمراوي، وحلّ بعده مولانا عصام الدين عبد القادر، وخلفه مولانا أحمد عبد المطلب، في ما لا يزال المدعي العام الخامس والحالي مولانا ياسر أحمد محمد صامداً إلى الآن في موقعه. ويعزو مراقبون ومتابعون لهذا الملف سبب تقديم الاستقالات، لعدم حدوث تقدم كبير فيه، وعدم وجود المدّعين لملفات واضحة، ووجود تعقيدات بالقضايا وتداخلات تفوق قدرة وزارة العدل، أما في سياق ملف ثانٍ مرتبط بدارفور، والمشهور بقضية (سوق المواسير)، ورغم وجود تعقيدات بالقضية، فقد حدث فيها تقدم ملحوظ وسعت الوزارة لمعالجته، والوصول لنهايات حاسمة له. دلالات سلبية عند هبوطنا لأربعة عشر طابقاً لتجاوز المسافة التي تفصل مكتب دوسة عن الأرض، بغرض البحث عن تقييم الآخرين ورؤيتهم لأدائه بالوزراة، يشدد خبير قانوني - اشترط حجب اسمه للتعليق على هذا الأمر - في معرض تعليقه ل(السوداني) على أهمية مناقشة بيئة العمل بالوزارة، وتوجه دوسة ومدى تمسكه بسياساته وقراراته، التي من شأنها أن تعطي انطباعاً عن جدية الوزارة في محاربة الفساد، ومضى قائلاً إن مشكلات عهده تتمثل في عكس صورة سالبة في ملفيْن داخلييْن، لم توفق فيهما الوزارة، أولهما المتصل بقضية المستشار مدحت، والتي اعتبرها "رسّخت ضعف الوزارة في محاسبة منسوبيها". أما القضية الداخلية الثانية بالوزارة، فهي قضية جمعية المستشارين التي تدّخل دوسة قبل يوم من انعقاد جمعيتها العمومية، وقام بحلها بسبب وجود توجه لأعضائها يقضي بسحب الثقة من أعضاء مكتب الجمعية السابقين، وانتخاب أعضاء جدد ومراجعة حساباتها، مبيناً أن هاتيْن القضيتيْن أعطتا انطباعاً داخل الوزارة بعجزه عن محاربة الفساد داخلها، "وهو ما لم يحدث طيلة تاريخها" حسب قوله. خطوة موفقة في ما يتصل بملف جرائم دارفور فقد اعتبر ذلك الخبير القانوني أنه على الرغم من الهالة الإعلامية الكبيرة التي أخذها ملف جرائم دارفور، فإن الإجراءات التي تمت فيه لم تعالج القضايا الحقيقية، كما لم تستطع تلك الإجراءات الحد أو إيقاف التفلتات بدارفور، معتبراً قيام وزارة العدل بفحص إقرارات الذمة ب(الخطوة الموفقة)، بعدما بذلت مجهودات فيها وأضاف: "ما يحمد لوزير العدل دوسة إعادة إقرارات الذمة، وتنشيطها وهي نقلة نوعية"، لكنه نوّه لعدم كفاية إقرارات الذمة تلك كآلية وحيدة لمحاربة الفساد، باعتبارها "شيئاً سياسياً أكثر من كونها عملاً قانونياً"، مشدداً على ضرورة استقلال النيابات. نجاحات واختراقات في المقابل تعتبر المستشار العام بوزارة العدل مولانا هند محمد عبد الرحمن الخانجي، أن دوسة يعد من أنجح الوزراء الذين تعاقبوا على أمر وزارة العدل، وأشارت في تعليقها ل(السوداني) إلى تحقيق دوسة نجاحات في كل الملفات داخل الوزارة، ابتداءً من ملف الفساد الذي نجح في محاربته بصورة كبيرة، بجانب جرائم دارفور، وإحداثه اختراقات ملموسة في ملفات وصفت بالمعقدة والشائكة، وملفات كبرى كإقرارات الذمة. وأشارت إلى أن الرجل يمتاز بأن أي "ملف يتسلمه يحقق فيه نجاحاً"، مستدلة بتكريم رئيس الجمهورية بمنحه وسام الإنجاز، وهو التكريم الذي لم يحدث طيلة الفترات الماضية، إلا في عهد الوزير الحالي، مشيرة إلى أن اختياره لموقعه الحالي لم يتم لتمثيل جهوي، وإنما لكفاءته وقالت: "هو يستمد قوته من التوكل على الله وتطبيق القانون بحذافيره دون تردد أو تخوف من أحد". تمسك بالنيابات الخاصة إلا أن مستشاراً قانونياً سابقاً بوزارة العدل - فضل حجب اسمه - قطع في تعليقه ل(السوداني) بعدم إمكانية محاربة الفساد بشكل فعلي، إذا لم يتم فصل العمل الجنائي عن العمل المدني، أو ما يعرف باستقلال النيابات، ليكون وزير العدل محايداً وأردف: "في القضايا التي تكون الحكومة طرفاً فيها، لا يمكن أن يكون وزير العدل هو الخصم والحكم"، مشيراً إلى تمسك وزارة العدل ووزيرها بالنيابات الخاصة، على الرغم من الانتقادات التي وجهت لها بتأثرها بالجهة التي تعمل معها. وتطرق ذات المستشار القانوني لأمر ثانٍ يتمثل في توسع الحصانات في عهده. يبقى أم يرحل؟ استناداًً إلى الوقائع؛ فإن مؤشرات بقاء الرجل في موقعه تبدو هي الأرجح، نسبة لعدة معطيات أولها الفترة القصيرة التي أمضاها الرجل في موقعه، أما الأمر الثاني فيرتبط بمعطى آخر يستوجب اصطحابه - ومع اصطحاب كفاءة الرجل القانونية وخبرته - وهو انتمائه لإقليم دارفور الذي يشهد صراعات سياسية، انطلاقاً من اتهامات بتهميش أبناء الإقليم، وبالتالي فإن وجوده في هذا الموقع يمثل مسلكاً رسمياً عملياً مضاداً يتولى تفنيد هذه الاتهامات، لا سيما أن الرجل وبتقلده حقيبة (العدل) المنوط بها مجابهة بتحقيق العدالة بدارفور، يقلل اتهامات الانحياز ضد الحكومة. من العوامل المهمة الواجب اصطحابها، هو اختلاف تقييم القيادة السياسية لأداء وزير العدل عن القانونيين، إذ يقيمون أدائهم استناداً إلى ما أحدثه الوزير من تطور في أداء وزارته، من خلال السياسات والخطط التي يتبعها، والجنوح لتحقيق الاستقرار في وزارة العدل، وتجنب إحداث تغييرات كثيرة ومتعددة فيها على فترات متقاربة. ومع ذلك يمكن وضع هامش لإفضاء التغيير القادم، لإبعاد الرجل عن موقعه، والتي تتمثل بشكل أساسي باحتمالية دخول أطراف جديدة للحكومة، سواء كان هذا الأمر ناتجاً عن زيادة حصة أطراف مشاركة فعلية، أو دخول أطراف جديدة، أو انضمام أي من المجموعات المعارضة المسلحة من الحركات الدارفورية لمسيرة السلام.